الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

بعد 71 سنة على "النكبة".. الخطاب الثقافي وضرورة تأبيد المفهوم

نشر بتاريخ: 14/05/2019 ( آخر تحديث: 14/05/2019 الساعة: 16:23 )

الكاتب: المتوكل طه

هل استطاع العربُ تحويلَ أكبر مَظْلمَة تاريخية، وأعظم كارثة حلّت بالشعب الفلسطيني، إلى ذُخْرٍ نفسي لا ينتهي، ومُلك أخلاقي يدينون به العالم كله؟!
وَهل حوّلنا كارثة الطرد والإبعاد إلى حادثٍ كوني يُؤَرَّخ به لبدايةٍ جديدة؟! أم أن هذه النكبة كانت ذروة حملةٍ غربيةٍ استعماريةٍ جديدةٍ بدأت في بداية القرن التاسع عشر، ولم تنته حتى هذه اللحظات؟! وبكلماتٍ أشدّ وضوحاً وأكثر إيلاماً، ألم تكن النكبة، ومن ثم سقوط القدس والنكسة، ذروة انتصار الغرب وفكره وآلته وجنده علينا نحن العرب والمسلمين؟!
هذه الحملة الجديدة التي استفادت من كل الحملات السابقة، لم تستعمل الحديد فقط، إنما استعملت المنهجين الفكري والأدبي أيضاً، من أجل إقناعنا بأنّ تاريخنا مجرد حروب عشائر، وأنّ حضارتنا مجرد رحلة أُخروية، وأنّ مساهمتنا في التاريخ البشري ليست إلا مساهمة المترجمين والنقلة. حملة أرادت وما زالت تريد أن تقنعنا بتفاهة تاريخنا وهامشيته وعدم حضوره، وهي حملةٌ ما زالت تريد تلقيننا، ليس المنهج فقط، وإنما استخلاصاته أيضاً.
وتحت هذا المدخل، نعيد السؤال: هل استطعنا الاحتفال والاحتفاء بالنكبة على مستوى الخطاب الثقافي؟ وهل نقلنا هذه الكارثة من تاريخيتها إلى وجدانيتها، ومن محليتها إلى عالميتها، أو من ظروفها السياسية إلى أَبعادها الكونية؟! هل عمّمناها على الوعي لتتحول إلى نُدبةٍ أخلاقيةٍ في جبين الضمير الإنساني الصامت؟! وأخيراً هل اعترف العالم بذلك؟! أم أنّ العَالَم لا يعترف للمهزوم حتى بممتلكاته الروحية والوجدانية؟! وهل الضعيف لايملك حتى إقناع نفسه بحزنه ودموعه؟!
إنّ خطابنا الثقافي العربي والإسلامي مدعوٌّ إلى تأبيد هذه الكارثة، لأنّ طرد الشعب الفلسطيني من أرضه واحتلال بيت مقدسه كان ولا يزال يعني موت تاريخٍ وبداية تاريخٍ آخر. وفي كل مرة كانت تسقط فيها القدسُ بيد غازٍ أو مغامرٍ أو مجنون، يتغير التاريخ ويتغير مسار الحضارة، إذن فهذه كارثة سرمدية! وإن ذهاب خطابنا الثقافي إلى مناطق العتمة والعبث والتغريب والتطبيع.. معناه طمس الحادث الأهم والكارثة الأعظم. وإذا كان خطابنا الثقافي اليوم يفتعل الحروب ويختلق الاصطفافات، ويؤلّف أوهاماً أو حقائق ليبرالية وأصولية، أو دعوات مجتمعية متعددة ومتضاربة، فإن سبب ذلك كله هو ضياع القدس، الذي أتى معه بكل موبقات الحكم والحكّام، وبكل تشوّهات المجتمع وبنيته الفوقية.
الهزيمة لا تأتي دفعةً واحدة، إنها تتراكم حتى تفيض بأبغض النتائج وأسوئها. والنصرُ تطهيرٌ وتطهُّر. عملية النصر هي الأتون الذي يذيب ما ترهّل وما خبث وما زاد عن الحاجة.
وإن خطابنا الثقافي العربي مدعوٌ اليوم إلى تحديد أولوياته وتحديد أعدائه، فالعدو ليس الخصم الداخلي أو المختلف، مهما بلغت درجة الاختلاف معه، وهو بالتأكيد ليس من لم نتفق وإياه على مسألةٍ فقهيةٍ هنا أو تفصيل هناك، وليس هو من لم يشاطرنا رؤيتنا الفكرية. والصديق ليس هو من يلوّح لنا بالجنّة على الأرض، وليس هو من يريد إقناعنا بحريّاتٍ ضيقةٍ تقوم على الطائفة أو العِرق، وليس هو أيضاً من يموّل مشاريع تخدمه أصلاً وتدمّرنا بالتدريج المُمل.
إن عدونا واضح، وصديقنا كذلك. ولكن من قال إن عملية تحديد الأعداء والأصدقاء سهلة في ظل هزيمةٍ تُغطّينا جميعاً؟
إن ارتباط معظم خطابنا الثقافي، اليوم، بالمؤسسة الرسمية، يجعل منه ظِلاً باهتاً غير أصيل أو مقنع، ولهذا يدخل في معارك متوهَّمة، ويساجل على أراضٍ بعيدة، وتختلط عليه وجوه الأعداء والأصدقاء.
إن هذا الخطاب الذي تقع عليه مسؤولية التنمية والتحرر والتحرير، ولا يستطيع الفكاك من ازدواجية دوره الاجتماعي ودوره التحرري، يجد نفسه، كلما تقدم الزمن، بيتعد أكثر فأكثر عن الانشغال بالقضية المركزية الأُم، بسبب هزائم النخب السياسية والاقتصادية، وانجرارها وراء مخططاتٍ أكبر منها، أو انسجامها مع الاشتراطات المريبة.
مرّةً أُخرى، تواجهنا الهزيمة التي تدعونا إلى الانغماس في العبث واللاجدوى، أو التهالك على حلولٍ فنيةٍ وثقافيةٍ أسهل كالنصوص التي تصطدم بالحائط. ولعل نظرةً واحدةً على ما يُنشر أو يُبث ستُرينا حجم الفجيعة، من جهة، والهزيمة، من جهةٍ أُخرى.
إن نكبة فلسطين ونكستها وضياع قدسها لم تقعا على كاهل الشعب الفلسطيني فحسب، بل إن الحملة الغربية الجديدة توزّعت على منطقتنا العربية، فجعلت في كل قطرٍ نكبة، وفي كل أُمةٍ جديدةٍ مُغايرةٍ نكسة، وانشغل كلُّ أصحاب نكبةٍ بنكبتهم، ونكسةٍ بنكستهم. ولهذا، فإنني أرى أن تأبيد الكلام عن مفهوم النكبة أو الاقتلاع أو الاحتلال هو تأبيد الاتهام لعقلية الغطرسة والعنجهية والعنصرية.
إن نكبتنا ونكستنا جميعاً ليستا بضياع الأرض فقط، وإنما أيضاً بالتأخر والتخلف والتصحر والتوترات العرقية والإثنية والمذهبية، وكذلك الفجوات بين النخب والجماهير وتراجُع العلم والمعرفة والنشر، وتواري الخطاب الثقافي الفوقي إلى مناطق الظل والمُعتم والذاتي والإيروتيك والهمس، وإلى العُري والتغريب والعدمية.
إن تعميم مفهوم النكبة أو النكسة وتأبيده وتحويله إلى ندبةٍ أخلاقيةٍ في جبين العالم لا يعني أبداً الدموع أو التذكر أو التعلّق برموز النوستالجيا المرضيّة، بل مواجهة الهزيمة وأسبابها ومقوماتها ودراستها، والتخلّي عن أدوار الفرسان والحالمين، وكأني لا أتحدث هنا عن واقعية المهزومين أو منطقهم الطيّع المرن! بل أتحدث عن واقعية القراءة والتحليل، وواقعية الحلول المؤسَّسة على إرادةٍ صادقةٍ بتجاوز الهزيمة ومسبباتها وشروطها. الواقعية ليست عيباً إلا اذا كانت ذريعةً لجعلنا ضحايا سلبيين، أو إذا كان منشأها قلب جبانٍ أو فكرٍ متعاون.
إنّ تعميم مفهوم النكبة بكل مستوياتها على العالم، وجعله مفهوماً يخجل منه أولئك الذين يريدون تعليمنا الديمقراطية والجنْدر وحقوق الإنسان، ويُربك أولئك المؤمنين بنظريات الأعراق وسباق الديانات وصراع الحضارات، يعني أن نقوم جميعاً بتحويل ذكرياتنا إلى أفعالٍ حقيقية، وتحويل دموعنا إلى خطط، وقلب مفاهيمنا الثقافية من مجرد المشابهة والتقليد، لنيل الرضا، إلى أهدافٍ تنبع من واقعنا لتخدم واقعنا.
المهزوم أو المنكوس يُقلّد فلا يجيد ولا يصيب ولا يصل، والمنكوب المهزوم يفقد أهدافه، ولا يحترم حتى ذكرياته ولا يقدسها. ولكننا في فلسطين، ذلك الشعب الصامد المرابط، لا يعيش ذكرياته فقط، وإنما عليه، أيضاً، أن يُواصل صنع تاريخه حتى يتجلّى كاملاً على أرضه، أي أن يعيش تاريخه ويكتبه في آنٍ واحد.
إن الخطاب الثقافي -مهما تعددت أشكاله ومضامينه- لا يعني شيئا ًمن دون الجهد والعمل، لأنّ الثقافة، في تعريفها الأخير، هي العمل والتفاعل، بهدف تكريس الثوابت وحراسة الأحلام والتطلعات الكبرى والقيم المطلقة، وتأصيل مدارك الأجيال الطالعة بكل ذلك، عبر المؤسستين الرسمية والأهلية، وما يُنتج الفرد والمجتمع من خطابٍ وأفكارٍ ومعارف.
وإن خطاباً ثقافياً اختار أن يقف على الرصيف لن يستطيع، بالتأكيد، إدراك الماضي وتحديد المخاطر والانتصار عليها، لأنه ببساطةٍ توقَّفَ عن العقل والعمل. وخطابنا الثقافي العربي والإسلامي –مع استثناءاتٍ قليلة– يشبه حالتنا المنكوبة، ولا يختلف عن واقع نكستنا كثيراً، بمعنى أنّ فعل الغرب الاستعماري، الهادف إلى بقائنا في حالة ضياعٍ وتشظيةٍ وعدميةٍ وجهلٍ واستلابٍ وتغريبٍ وصدام، قد نجح إلى حدٍّ كبير، ليس لأنه استراتيجيٌّ ومتواصلٌ وشموليٌّ ومدعومٌ فحسب، بل لأننا، أيضاً، لم نخلق النظرية القادرة على خلق فعلٍ أكبر لاستيعاب تلك الاستراتيجية ومواجهتها، وأعني، على الأقل، خلق فعلٍ ثقافيٍّ فكريٍّ يكون قادراً على تعرية المؤامرة ومكوناتها وأطرافها، وتأصيل وإنهاض عوامل البقاء والوحدة والهوية والانتماء والحضور، على أرض التعددية الطبيعية التي تُثري، وعلى مبدأ التجريب والحداثة المتصلة بالأصل والجذر، ومن منظور النقد باعتباره حالةً دائمةً وهدفاً تصحيحياً، بعيداً عن الإعدام أو الاتهام أو الوقوع في مقولات الاستشراق، أو تبني الأفكار الجاهزة أو المُعَدّة سلفاً.
غير أننا نرى أن حالة الوعي العام المخزون في شوارع محيطنا العربي، والآتية من ثورة الاتصالات والمعرفة والقمع والاحتلالات والنهب، ارتفع منسوبها، وصرنا نلاحظ بعض الإشارات التي توحي بأن شعوب أمّتنا باتت تدرك المعادلة جيداً، وبأن حال الشارع العربي سيصِحُّ، ولو بعد حين.