الثلاثاء: 30/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

في وصف حالتنا وحالتهم-2-

نشر بتاريخ: 26/06/2019 ( آخر تحديث: 26/06/2019 الساعة: 20:27 )

الكاتب: محمد نعيم فرحات

ماذا لو فعلها الفلسطينيون: صفقة تاريخية لإطاحة صفقة القرن وغيرها...
"إن تصفية الفلسطينيين، هو أمر كائن ومحتمل.
والتحايل على حقوقهم هو أمر متواصل،
واستبعادهم من الواقع والزمن هو سياسية منهجية متبعة،
غير أن الواقع يقول إن تصفيتهم نهائيا وتصفية فلسطين ومعناها
هو أمر مستحيل، وبات وراء ظهر جميع من يسعون لذلك.
هذه الحقيقة تحتاج لان تكون السطر الأول
في قراءة طالع المشهد، عند كل المعنيين، من هنا إلى أقاصي هناك" .
فصل من فقه فلسطين

يتحرك الوضع الفلسطيني داخل ثلاثة مشاهد معقدة ومتداخلة يؤثر بعضها في بعض: المشهد الأول هو المشهد الإسرائيلي وابرز العوامل الحاكمة فيه:
*عدم وجود استعداد من أي مستوى عند النخبة المهيمنة في إسرائيل لاستحقاقات السلام ثقافيا وإيديولوجيا. هناك إجماع في النخبة الحاكمة أو القادمة للحكم حول هذه المسألة، مدعوم بتيار رئيسي غالب وكاسح في الرأي العام، يتبني هذا الموقف. وهو إجماع لا يحكمه منطق السياسة ومتطلباتها بل منطق إيديولوجي ثقافي عتيق وقديم مستحكم، ستكون له عواقبه الوجودية الخطرة على إسرائيل: فكرة ومشروعا ودولة وبشرا.
*رغم أن إسرائيل، قوية عسكريا وامنيا واقتصاديا ومن حيث الحلفاء والنفوذ، إلا أن هناك متغيرا جوهريا يجب التوقف عنده، وهو الفرق بين قوة إسرائيل الشاملة من جهة ، وقدرتها على استخدام هذه القوة . إن الفرق في هذا المستوى هام واستراتيجي وهو فرق قابل للتراكم وليس للتراجع. ويد إسرائيل الطولى القديمة باتت تواجه مصاعب تتفاقم وتتصاعد من مواجهة لأخرى، لا، لم يعد بمقدورها العمل كما اعتادت في عقود سابقة. ويوما تلو أخر تتحول رهانات إسرائيل على نفسها وعلى حلفائها لعبء لا حلول له.
*إن الواقع في منطقة الشرق الأوسط يتغير، بعضه في صالح إسرائيل واهمة في غير صالحها بالمعنى الاستراتيجي المنظور وبعيد المدى معا. ورغم ما يترتب عن متغيرات الشرق الأوسط من مخاطر تمس الجميع وأكثرهم مساسا ستكون إسرائيل ، إلا أن العقل الحاكم في إسرائيل ووعيها لا زال يتعاط مع المنطقة وفق عاداته القديمة وصورة القديمة عنها وطريقته القديمة في التعامل، هنا يمكن القول إن البيئة الإستراتيجية في المنطقة تتغير وطريقة تعاط إسرائيل لم تتغير وهذا الوضع ينطوي على مفاقمة المخاطر الإستراتيجية لإسرائيل ويفاقم من عوامل ضائقتها الوجودية. وعلى ما يبدو فإن إسرائيل غير قابلة لأي نوع من أنواع اليقظة أو إعادة النظر ، وان تقف وتفكر كما كانت تدعو أعدائها كي يفعلوا. يتغير الواقع غير ان الوعي الحاكم لاسرائيل يشهد ارتدادا منهجيا نحو الزوايا الضيقة ، ويودع نفسه في كنف عقم الايديولوجيا وليس في عوالم السياسة العاقلة وممكناتها.
إن إسرائيل هي أكثر دولة مدججة بعوامل القوة والسلاح والنفوذ والايدولوجيا والحلفاء في العالم ، وهي لا تحتاج لمنظومة صواريخ جديدة مثلا ، لكنها تحتاج لمنظومة عقل وتفكير سياسي جديدة تقرأ المتغيرات وتتعامل على ضوئها كما يتطلب منطق السياسة وليس رواسب الايدولوجيا المرضية ، غير أنها لا تسير في هذا الاتجاه ، وهذا الأمر سيء لها وجيد لأعدائها ، خصوصا وأنها كيان استثنائي ومن نوع خاص، لا تتحمل الأخطاء الوجودية كما قال يوما احد عقلائها يهوشعفاط هركابي قائد الاستخبارات العسكرية في حرب 1967. ذاته الذي قال أيضا إن إسرائيل تحتاج إلى العقلانية كثيرا والى الايدولوجيا قليلا، غير أن إسرائيل تختار عكس ما وأوصاها به رجل عاقل خريج ميادين قتال. لذلك فإن :
*التيار القومي الديني المتطرف يعزز مواقعه وأطروحاته ونفوذه ويطرد ويحاصر ويستبعد من هم سواه على ضعفهم.
كما لا يلحظ بأي شكل اتجاه إسرائيل لانتهاج مقاربة عقلانية سياسية في رؤيتها لنفسها ومصيرها وللواقع ولضحاياها وأعدائها.
وعوضا عن ذلك تواصل إسرائيل عملية إيقاع مجزرة سياسية إيديولوجية بالحقوق الفلسطينية السياسية والوجودية وفي يومياتهم وفي معناهم وفي أحلامهم.مستندة لموروث وثقافة عدوانية مدججة، لكنها غبية من الناحية الإستراتيجية ومن ناحية العواقب التي ستجلبها عليها وعلى الآخرين في المدى المنظور والبعيد معا.
في هذا السياق يمكن فهم تبديد إسرائيل لكافة الحلول المنطقية المحتملة لمسألة الصراع: من تدمير حل الدولتين بمنهجية ، وتتلافى بقوة – وخيرا تفعل- حل دولة ثنائية القومية. وتقصي تماما من خيالها حل دولة لكل مواطنيها وساكنيها، وليس بمقدورها اختراع مكان أو إيجاد وضع خارج فلسطين ومعناها، أو حتى استنساخ فلسطين أخرى، تحل من خلاله مشكلة الفلسطينيين . وإسرائيل لا تريد أن تنتبه إلى أن الاحتلال وثقافته قد أستكمل تدمير حياة الفلسطينيين، وها هو يفسد فكرة إسرائيل نفسها ومشروعها معا.
بجانب المشهد الإسرائيلي نجد ،حركة وطنية فلسطينية، كان لها انجازات قلقة ومشكلات مستديمة، تعيش حالة إخفاق في تحقيق أهداف معقولة لأسباب موضوعية معقدة ولأسباب بنيوية ليست قليلة الشأن.
وتعيش الحالة الفلسطينية الراهنة في كنف حالة تفكك لمنظومة القيم التي كانت تشكل دليلا وضابطا لسلوكها السياسي بدون حلول منظومة أفضل وأحسن. بمعنى أخر يعيش الفلسطينيون تفككا في قيم الإجماع وفي الدليل الناظم لسلوكياتهم السياسية كما كان عليه الحال إبان صعود حركتهم في عقود خلت.
كما يقف الفلسطينيون أمام فشل خيار السلام ومقاربته كما تمت، في الوصول لغاياته أو لأي نتيجة يمكن البناء عليها.
ويتقلبون في حالة انقسام عميقة نفسية غرائزيه تتحكم في الساحة الفلسطينية أصبح لها ثقافتها وخطاباتها ورواسبها، ولأنها تستند لغرائز بدائية ذات صبغة مدمرة ، ولا تتأثر بالعواطف الوطنية أو بمنطق السياسة السليمة، أو بالمصالح المتوافق عليها ، فهي حالة تنمو وتتطور من يوم لأخر ومن موقف لآخر. وسيفعلون خيرا سياسيا واستراتيجيا بأنفسهم إذا ما اغتنموا حالة الإجماع الأخيرة ضد صفقة القرن، وبلوروا دليلا جامعا يتفقون تحته او يختلفون، وعليهم ألا يجعلوا هذه الامكانية فرصة جديدة مضيعة، لا يحتاجون بالتاكيد لترف تضيعها.
في البعد الثالث من المشهد نجد: صراعا معقدا يجري بين كتلتين إقليميتين لهما امتد اتهما الكونية القوية ، يتسم فيها الصراع انه يقوم على خط البقاء الأخير، حيث حدود المناورة والإيهام محدودة، لذلك تفصح أطراف الصراع عن رؤيتها بكامل الوضوح، تطبيعا أو ممانعة أو اصطفافا. وفي خضم هذا الصراع فإن فلسطين كقضية مطروحة في صميم كل المشاريع المتصارعة.
إن البيئة الإستراتيجية في المنطقة تتغير على نحو عميق ، ويلحظ اندحار بالنقاط الثقيلة لمحور وفوز بالنقاط الثقيلة لطرف أخر. والمنطقة تدخل مرحلة معارك ترسيم المعادلات الجديدة داخل حروب سيربحها من لديه المناعة الوجودية والقادر على احتمال الخسائر والاستمرار. وهذه الخاصية ليست إسرائيلية والظرف الأمريكي سيء وأوروبا تتحسس أقدارها بصعوبة بالغة والعرب عربيين، عرب لفلسطين وعرب عليها.
في هذا الحيز بالضبط تبرز أهمية بلورة مقاربة فلسطينية مختلفة بخيال ووعي مختلف وقراءة أخرى للواقع والمعطيات والضرورات تقوم على:
* تشكيل كتلة سياسية تاريخية تستند إلى مذهب الصمود السياسي ،تقوم على تجاوز الرواسب القائمة ، وتجمع القوى الحية في الشعب الفلسطيني وامتداداتها في كل العوالم الممكنة.
* بلورة خطاب يناسب الكتلة ويتجه نحو مستوى من التأطير ويتدعم بسياسات تساعد على تنمية الصمود وتثميره .
*استعادة خطاب دولة لكل مواطنيها وساكنيها في مواجهة تموضع إسرائيل العنصري داخل السياج القاتل للدولة اليهودية، وتلاشي فكرة الدولتين عمليا، خطاب ينفتح بذكاء وبخيال على مقولات مقاومة الاحتلال وثقافته بما هي خراب يمس الجميع ويهدد الأمن في المنطقة والعالم. إن أهم الحلول التي تخشاها إسرائيل وتحرجها، هو حل دولة لكل مواطنيها.اما باقي فرضيات الحلول فبمقدورها ان تتلاعب فيها لحين طويل من الزمن.
*تدعيم الوقوف في المكان المناسب التي تنهجة المركزية الفلسطينية بخصوص متغيرات المنطقة والإقليم على نحو يستفيد مما يجري ويمنع تحول الفلسطينيين إلى ضحايا.
* قراءة التهديدات بأبعادها المتعددة ، إذ أن صفقة القرن يصوغها عمى إيديولوجي وغباء استراتيجي وجهل متعمد وعزلة عن قراءة الواقع والذهاب في رهانات ضالة. وبمقدار ما هي بمندرجاتها مثل: ضمن القدس والجولان وما هو قادم، مكاسب نفسية رمزية إيديولوجية لإسرائيل، فإنها كرة من لهب يلقيها وعي فاجر في حضن إسرائيل الحمقاء التي لا تستطيع تصريفها.
***
إن قراءة فقه فلسطين في الزمن والتاريخ والجغرافيا والمعنى والروح والأرض والسماء على نحو أصيل هي ضمانة للسير في اتجاه صحيح للجميع. حيث أن السماء والتاريخ لا يلعبان عندما حددا ماهيتها ومعناها ومكانتها.
إن غالبية الفلسطينيين يشعرون بأنهم يمرون في أخطر أزمة بنيوية موضوعية منذ قرن على الأقل، غير أنهم يجب أن يتفقوا على أن واقع الحال واحتمالاته يتطلب منهم كـ: قوىً سياسية وكمجتمع أهلي مقاربة الأمور بطريقة مختلفة عما هو قائم في وعيهم كضرورة وكحاجة معا. وها هم يكتشفون، قدرتهم على الإعاقة وعلى العرقلة وعلى الفاعلية عندما يستندون إلى فلسطين وفقهها وقوتها بصفاتها تلك.
إن إسرائيل بشراكة عميقة مع الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى، قد أطاحت بمختلف إمكانيات الحلول التي تضمن أي وضع كياني للفلسطينيين ، وصفقة القرن هي أقصى ما توصل إليه الوعي الإسرائيلي وحلفائه في أمريكا والغرب والمنطقة من فجور ومن غباء ومن ظلم أرعن ومن عزلة عن الواقع وعن العقل السياسي السليم.
إن خيار دولة لكل مواطنيها الأصليين ولكل ساكنيها ووالذي يتطلب من الإسرائيليين التنازل في جبهة الأوهام واعلان فعل اعتذار ونقد شامل للذات لصالح جبهة الحقوق، هو الخيار الأفضل ضمن البدائل القائمة الذي يستحق العمل لأجله، وبالرغم من أن حصول مثل هذا الامر في وعي الاسرائيليين وثقافتهم مستبعد وغير قابل للتحقيق، الا ان العمل من اجل ذلك يظل هو اقل التباسا من الخيارات الصعبة الاخرى، إلى أن يأتي الله والتاريخ بأمر كان مفعولا.
كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين