الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

مدينتي "بيت لحم"

نشر بتاريخ: 07/03/2020 ( آخر تحديث: 08/03/2020 الساعة: 00:01 )
مدينتي "بيت لحم"
الكاتب: عماد غياظة

ليست ككل المدن بيت لحم، وكل المدن قاطبة ليست كبيت لحم، فيها كان مولدي، وطفولتي وشبابي، وحين غادرتها كنت قد تنسمت عبير كل حواريها القديمة والجديدة، وكنائسها ومساجدها وملاعبها ومدارسها، وشوارعها واحيائها وجامعتها. كنت قد رأيت نفسي عندما اطللت على البئر الأولى لجبرا اني اقفز في ثنايا بئره القديم، وكأنني احد سكان مخيلته أو واقعيته التي عاشها بعد النكبة، فمنزل أخيه يوسف وزوجته تريز قربنا، وكنا نسترق السمع لموسيقى يوسف النجار من شباك البيت المطل على الحارة. وكنا نستمتع بلوحات جبرا المعلقة على جدران منزله، دون ان نفهم مغزاها، وكانت روايته وقصصه الممنوعة نطل عليها من مكتبة النجار أبو إبراهيم.

بيت لحم هي العمر الأول وهي الزمن الأول، لي فيها كل ما في اليوم من معرفة وعلم ومواهب، ففي مدرسة المسعودي خطوت مراحل تعليمي، وفي مدرسة المهد، تعرفت على كينونتي، وفي الثانوية بقرب كنسية المهد تعمقت جذوري، وكأنني مولود مدارسها بفكري وهمومي، وفي ملاعب السالزيان كان منطلق هوايتي، حتى غادرت مدينتي مجبرا ومكرها بأمر عنجهي غريب لمدرسة الخضر، وكأني جزء سلخ من مدينتي.

اذكر السوق بمركباته المتعددة والمختلفة من البشر والفواكه والخضروات، وحتى المستعمل من الأدوات، وفيه كانت اشرس المواجهات قبل الانتفاضة الاولى، وفيه والدي ووالدتي، وكل الفلاحات، اللواتي حين يفوتهن موعد الحافلات يبتن في بيتنا وكأنهن مقيمات غير زائرات. في بيتنا الواقع بالقرب من عيادة ومنزل الدكتور إسكندر دحبورة وشقيقته، كان ملتقى رجال ونساء القرى الغربية، وكان محطة لاقاربنا في غزواتهم للمدنية، وكان ملتقى الشباب قبل وفي الانتفاضة الأولى، بمراقبة ومتابعة جارتنا محمدية وبنتها نوال، وكانت الحاجة الشامية طبيبة العائلة والمقيمة الدائمة فيه.

ومن منزلي كان اول اعتقال، وكان آخر اعتقال، وبعدها من الحواري والشوارع وقرب المقابر لذكرى فادي، وكان لنا في المهد يوم مشهود لهذا الشهيد، فمدينتي ليست ككل المدن، والمدن كلها ليست كمدينتي، فمنها وفيها تعلمت الوطن، والحياة والعمل، وفيها كانت رحلتي حتى اليوم، فسلام لك وعليك مدينتي، والسلام لمن فيك ولكل من طهروا ارضك بالياسمين الوطني والثوري والإنساني. وسلامي لك اليوم في وجعك والمك، وفي همك ومرضك، فانت من علمتنا كيف نصد الفرس وغزاة الأرض، منذ عيسى وحتى عودة عيسى، ففيك ولدت فكرة الامل والخلاص، ومنك تقرع الاجراس لكل الدنا، ولك ترنوا القلوب والعيون وتنهمر الدموع والدما.

لست جزعا عليك وعلى من فيك، فالجزع غاب عني حين حوصرت وجوعت وتعرضت لمحاولات اقتلاع الامل منك، ولست خائفا عليك، فانت عنوان الخلاص والبقاء والانبعاث، فمن جديد دائما مدينتي تنتفض على ويلات الزمن وعلى بقايا الأمم، فهي منبع الامل كما كان مسيحها، وهي ايقونة المدن جميعها، وهي رمز العطاء في رواية أبنائها واحفادها، فكوني كما عودتنا، نموذجا لصمودنا، ونبراسا لعهودنا، وحربة في خاصرة الألم الذي يباغتنا، فانت مدينتي وحديقة طفولتي، وبستان شبابي، ومنبع هويتي، فلن نقبل كل مدن الدنيا سواك.

" على هذه الأرض ما يستحق الحياة" وفي بيت لحم كل الحياة.