السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الصناعة الوطنية وحالة التراجع والتدهور

نشر بتاريخ: 16/06/2005 ( آخر تحديث: 16/06/2005 الساعة: 21:23 )
نابلس-معا- في الظروف التي نمر بها بعد خمسة أعوام من الانتفاضة ضد الاحتلال وثلاثة أعوام من إعادة احتلال المدن في الضفة الغربية وما رافق ذلك من تدمير للبنية التحتية ليس في الضفة الغربية وحدها، بل وفي قطاع غزة كذلك .
هنالك ترابط واضح بين حالة التدهور التي تمر بها الصناعة الوطنية وحالة التراجع والتدهور التي تمر بها الطبقة العاملة الفلسطينية. الصناعة الوطنية صناعة بسيطة، وهي في هيكلها الأساس صناعة تحويلية، بعضها شق طريقه بصعوبة بالغة في ظل القيود والضغوط الهائلة لاتفاق باريس الاقتصادي، الذي تم التوقيع عليه مع حكومة إسرائيل عام 1994. سوق اقتصادية واحدة ووحدة جمركية بين اقتصاد بسيط وآخر متطور تقوده ثورة العلوم والتكنولوجيا والاتصالات، وضعت قيوداً وولدت ضغوطاً لا يمكن تجاهلها بانعكاساتها السلبية على أداء الاقتصاد الفلسطيني وتطور الصناعة الفلسطينية، ورغم ذلك شقت بعض الصناعات الفلسطينية طريقها في ظل هذه القيود والضغوط. صناعات أخرى على أساس التعاقد من الباطن مع الاقتصاد الإسرائيلي والسوق الإسرائيلية، ورغم كل القيود والضغوط ارتفعت مساهمة الصناعة الفلسطينية في الناتج المحلي الإجمالي من 11% عام 1994 إلى 18% عام 2000.
وقد اخذ هيكل الانتاج يتحول ويتطور وإن كان ببطء شديد، وكذلك حال هيكل العمالة ومدخلات الناتج القومي الإجمالي، الذي كانت عوائد المداخيل من الخارج وفي الأساس من العمل في المشاريع الإسرائيلية تشكل جزءاً مهماً من مكوناته يصل في المعدل أحياناً إلى نحو 30%.
منذ ثلاثة أعوام، أي بعد إعادة احتلال الجيش الإسرائيلي للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في نيسان 2002، أخذت الأوضاع تتغير ودخل الاقتصاد الفلسطيني وفي المقدمة منه فروع الصناعة الوطنية رحلة تراجع كبير وتدهور مفزع. سياسة الإغلاق والحصار وأوامر منع التجول وتدمير البنى التحتية التي أنفقت عليها السلطة بين الأعوام 1994 - 2000 نحو 900 مليون دولار بهدف تحسينها لتسهم في دورة عجلة الاقتصاد كان لها إلى جانب قيود وضغوط اتفاق باريس الاقتصادي أثر بالغ للغاية على تدهور وتراجع هيكل الانتاج وهيكل العمالة وعلى الناتج المحلي الإجمالي.
الناتج المحلي الإجمالي تراجع في هذه السنوات بنسبة 25%، ومستوى دخل الفرد من الناتج القومي انخفض من 2000 دولار عام 2000 إلى 925 دولار عام 2004، والبطالة أخذت تتصاعد بمعدلات عالية، وأخذت تدور حول 26% في الضفة الغربية وحول 35% في قطاع غزة في الأحوال العادية، ومعدل الإعالة الاقتصادية أخذ يرتفع في الضفة الغربية من 4.8 عام 2000 إلى 6 عام 2004، وفي قطاع غزة من 5.9 إلى 8.5 على التوالي. مستوى خط الفقر أخذ بدوره يرتفع في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد ارتفعت نسبة المستخدمين بأجر والذين هم أجورهم الشهرية دون مستوى خط الفقر من 43% عام 2000 إلى نحو 57% عام 2004 وفق أفضل التقديرات.
سياسة الحصار والخنق الاقتصادي وسياسة تدمير البنى التحتية، التي مارستها حكومة إسرائيل انعكست آثارها السلبية بصورة واضحة على الاقتصاد الفلسطيني وفروعه المختلفة بما فيها الصناعة الوطنية وعلى أوضاع الطبقة العاملة كذلك. وجاء بناء جدار الفصل العنصري ليزيد من المعاناة وحالة التدهور والتراجع في أوضاع العمال وفي انتشار البطالة في صفوفهم، إذ لم يعد سهلاً بالنسبة لعدد كبير من العمال الالتحاق بمواقع العمل من خلال السوق السوداء.
سياسة حكومة إسرائيل هذه كانت متوقعةً في ظل الانتفاضة واحتدام حالة الصراع ضد الاحتلال. لم يكن أحد يتوقع أن يمد الاحتلال يد المساعدة للاقتصاد الفلسطيني وتخفيف المعاناة عن المواطن الفلسطيني وبشكل خاص الطبقة العاملة الفلسطينية، التي شكلت قاطرة النضال الوطني في ظل الانتفاضة ، فهذا هو منطق الأمور.
في الوقت نفسه كانت سياسة السلطة الفلسطينية سياسة عاجزة تماماً على كل صعيد، فقد غاب عن سياسة السلطة كل اهتمام بأوضاع الاقتصاد الوطني وفروعه المختلفة وخاصةً قطاع الصناعة الوطنية، الذي أخذ يعاني من غياب سياسة اقتصادية وطنية، فتدهورت أوضاعه خاصةً في أعقاب سياسة الانفتاح التجاري وما تولده من ضغوط تنافسية هائلة على المنتجات الوطنية. ففتحت السلطة أبواب استيراد السلع الرخيصة من الصين وبلدان جنوب شرق آسيا وتركيا على مصراعيها وأغرقت السوق الوطني بهذه السلع دون ضوابط أو رقابة، فانعكس ذلك بنتائج سلبية للغاية على المنشآت والورش الصناعية الوطنية. والنتائج ظهرت واضحة وبسرعة، فقد كان عدد المنشآت الصناعية عام 2000 نحو 3500 منشأة كانت تشغل نحو 40 ألف عامل، ومع هذا الانفتاح وانتعاش الاقتصاد الطفيلي تراجع عدد هذه المنشآت إلى الثلث تقريباً وجرى بفعل ذلك إلقاء نحو 30 ألف عامل في سوق البطالة. فإذا ما أخذنا الوضع في مدينتي نابلس والخليل باعتبارهما حاضنة الصناعة الوطنية بعين الاعتبار لقياس انعكاسات غياب سياسة اقتصادية وطنية، لأدركنا حجم الخلل وطبيعة المشكلة. في كثير من المنشآت الصناعية انخفضت العمالة عام 2004 إلى ثلث ما كانت عليه عام 2000, هذه ظاهرة يلمسها الجميع في فروع صناعة النسيج والملابس والدباغة والجلود والأحذية والزيوت النباتية وحتى صناعة الحجر والرخام. وقد ترتب على ذلك تراجع واضح في الناتج المحلي الإجمالي وتراجع واضح في حالة الصناعة وزيادة كبيرة في أعداد العاطلين عن العمل. أدرك طبعاً أن جميع فروع الاقتصاد الوطني قد تأثرت بإجراءات وسياسات الاحتلال، وهذا واضح من حساب مداخيل هذه الفروع. فمداخيل قطاع النقل مثلاً عام 2004، لا تتجاوز 69% عما كانت عليه عام 2000، وليس الوضع بأفضل لقطاعات أخرى، حيث رست الإنشاءات على 63% والورش الصناعية على 55% والقطاع التجاري على 50% على التوالي. غير أن احتساب هذا على رصيد سياسة وإجراءات الاحتلال وحدها لا تعطي الجواب الشافي، وهذا ما يجب لفت نظر السلطة الفلسطينية نحوه وتحذيرها من عواقب سياستها وعجزها عن معالجة ما آلت إليه أوضاع الاقتصاد الفلسطيني وأوضاع الطبقة العاملة الفلسطينية.
سياسة إغراق الأسواق بالسلع الرخيصة المستوردة دون ضوابط أو قيود ساهمت في تردي أداء الاقتصاد الوطني وتراجع أوضاع القطاع الصناعي وازدياد معدلات البطالة وتدهور مستوى المعيشة وتفاقم حالات وظواهر الفقر. ونتيجة هذه السياسة، إلى جانب تأثيرات سياسة الخنق الاقتصادي التي تمارسها حكومة إسرائيل، واضحة للعيان على أوضاع المنشآت الصناعية؛ 67% من هذه المنشآت تجد صعوبةً في تسديد الايجارات ونحو 46% تجد صعوبةً في تسديد التزاماتها للبنوك. كما ساهم في تردي أداء الاقتصاد الوطني كذلك وتراجع أوضاع القطاع الصناعي غياب سياسة وطنية لتشجيع الاستثمار وضعف وتراجع دور البنوك والمصارف في تقديم التسهيلات الائتمانية وغياب دور سلطة النقد الفلسطينية. صحيح أن لدينا قانون لتشجيع الاستثمار، غير أن القانون بحد ذاته لا يكفي، وصحيح كذلك أن الاستثمار وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية بحاجة إلى درجة من الاستقرار السياسي وإلى خفض عنصر المخاطرة، غير أن الصحيح أيضاً أن السلطة الفلسطينية لم تبذل جهداً ملموساً في هذا الاتجاه وأعفت نفسها من أي تدخل، وقد كان مطلوباً، من أجل توجيه دور الجهاز المصرفي والمالي وحفزه للتدخل وتقديم التسهيلات الائتمانية الضرورية. فقد كان ولازال على السلطة الفلسطينية، أن تعمل على حفز سلطة النقد الفلسطينية لتعزيز رقابتها على الجهاز المالي والمصرفي ودفعه نحو تقديم التسهيلات الائتمانية فضلاً عن التدخل لوقف تحويل ودائع المواطنين إلى الخارج، وكان عليها أن تسعى جدياً لتأسيس بنك إقراض صناعي من أجل تنمية القطاع الصناعي وتوفير القروض الضرورية للمشاريع المتوسطة والصغيرة هذا إلى جانب خفض ضريبة القيمة المضافة على المنتجات المحلية من أجل تشجيع الطلب عليها وتحسين قدرتها التنافسية وتوفير الحماية لعدد من الصناعات الوطنية من خلال فرض رسوم جمركية على عدد من السلع المستوردة المنافسة. إن هذه الاجراءات لا تخل من قريب أو بعيد بأية التزامات باتقاقية "الجات" ومنظمة التجارة العالمية، التي استخدمتها بعض الأوساط للكسب غير المشروع وتنمية الاقتصاد الطفيلي على حساب الاقتصاد الوطني.
أخيراً لا بد من كلمة نوجهها لوزير الاقتصاد الجديد. خيراً تفعل بعدد من الاجراءات التي باشرتها الوزارة مؤخراً من أجل وقف إغراق الأسواق بالسلع الرخيصة والمستوردة على حساب تشجيع المنتجات الوطنية. فوضى الاستيراد يجب أن تتوقف، فهي مدمرة، والقيود التي وضعتها الوزارة على رخص الاستيراد خطوة ايجابية في الاتجاه الصحيح. على كل مستورد أن يحصل على براءة ذمة من وزارة المالية حول الدخل والقيمة المضافة، وأن يكون حائزاً على رخصة حرف ومهن من البلدية تؤكد أن لديه محلات تجارية مرتبطة بنشاطه التجاري، وبيانات جمركية حول حجم الاستيراد من السلعة المعنية خلال آخر سنة والتزام بالمواصفات والتعليمات الفنية الإلزامية قبل دخول السلعة إلى السوق، كل هذا خطوة في الاتجاه الصحيح. ولكنه لا يكفي لمعالجة تردي أداء الاقتصاد الوطني وتراجع وتدهور أوضاع القطاع الصناعي وتفاقم مشكلات البطالة والفقر. فالأزمة عميقة، والخروج من الأزمة، أو وضع الأقدام على طريق الخروج منها يستدعي الدعوة إلى مؤتمر وطني تشارك فيه أطراف الانتاج الثلاثة وفي المقدمة منها الاتحادات النقابية والمهنية وأرباب العمل للبحث معاً في خطة وطنية لانقاذ اقتصادنا الوطني من أزمته، ولمعالجة مشكلات البطالة والفقر.