السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ثلاثة أعوام على ثورة باب الأسباط

نشر بتاريخ: 21/07/2020 ( آخر تحديث: 21/07/2020 الساعة: 14:23 )
ثلاثة أعوام على  ثورة باب الأسباط

نصوص - المتوكل طه

فضاء الملحمة

***

يداه المُجَرّحتان، والخِرقةُ التي يلفُّ بها جسدَهُ الورديّ، وشَعرُهُ المسبول المُجعَّدُ قليلاً، وقامتُه الفارعةُ السُّنبليّة، وتواضع جلسته على حجارة المعصرة، والتلاميذ من حوله.. ولا شيء غير أنه نبيٌّ يعظ ويشرحُ، ويكاد اليمامُ يفردُ أجنحته ليقعَ الكلامُ الرسوليّ على الرّيش، كما تقعُ حبّات الماء الصافية، فيطير بها.. ليُبشّرَ مَنْ لم يشهدوا حلقات النبيّ، لعلّ الأرضَ تُصادف السلام والطمأنينة والمحبّة.

كان الحقل لجدّته أُمّ مريم، وثمّة ثماني زيتوناتٍ دهريّات، والحجارة ملساء تشرّبت الزيت المعصور، وبعض العشب الهائش القليل.. لقد كان المشهد طبيعياً رعويّاً لا يشي بما سيحدث من تحوّلاتٍ كونيّةٍ، ومن عِبَرٍ ستقشعرُّ منها المعادن.

كان يعرف أنّ المائدة ستهبط من السماء، وأنّ يهوذا سيخونُه بثلاثين رنّانةً نجسة، وسيُنْكره تلميذُه المُحبّ، وسيكون عَرقُه دماً مخثّراً، وسيصعدون به إلى الجُلجلة.

كان بُستان جدّته مُهيَّأً ليكون غير كنيسةٍ وقبرٍ مُقدّس، ولم يكن في بال البنّائين أن كنيسة الجُثمانيّة "المِعصرة- الجتسمانية" هي وسادة الجموع الذين حلّوا على التلّة المُقابلة، صعوداً إلى باب الأسباط الذي ينفتح ليستقبل الشمس كلّ شروق.

والصعودُ إلى الأسباط طريقٌ قد يتعدّى العشرين ذراعاً، على يمينه المقبرة اليوسفيّة (نسبةً إلى يوسف، وهو اسم الناصر صلاح الدين الأيوبي)، وعلى يساره مقبرة باب الرّحمة (نسبةً إلى اسم باب الرحمة المُغلق الواقع شرق سور القدس بمحاذاة المقبرة)، اللتان يغفو فيهما الصحابةُ الأحياء، ويتزاحم في قلبيهما الشهداء الأبرار. ويبدو واضحاً أنّ هذا المكان كتب اللهُ تعالى بيده تاريخَه الجليل، إذ أَسْكَنَ فيه أولياءه وصحابةَ حبيبه والذين صدَقوا ما عاهدوه عليه.

وفي 21 تموز / يوليو 2017، وبعد أُسبوعٍ كاملٍ من إغلاق الأقصى ومنع المُصلّين من دخوله، تحوّل باب الأسباط إلى ميدانٍ رئيسٍ لاعتصام الفلسطينيين في القدس، احتجاجاً على الإجراءات الإسرائيلية بحقّ المسجد الأقصى، خاصةً إغلاقه ومنع الصلاة فيه، ووضع بواباتٍ إلكترونية على أبوابه، وهي الإجراءات التي اضطر الاحتلال لاحقاً إلى إزالتها.

وخلال أيام الرباط لأهالي القدس على أبواب المسجد الأقصى المبارك رفضاً لدخولهم إليه عبر بوابات الاحتلال الإلكترونية، كان اسم باب الأسباط هو عنوان هذا الرفض، حيث الصلاة الجماعية التي وصلت إلى قرابة سبعة عشر ألف مُصَلٍّ على أبوابه، واستفزاز الاحتلال للمرابطين والمُصلّين عنده، واندلاع المواجهات وإصابة العشرات منهم، والاعتقالات التي طالت عشرات الشبان وإبعادهم عن المكان.

كما فتح أكثر من خمسين ألفاً البوابات المُغلقة، وعبروا إلى المسجد مكبّرين مُهلّلين في مشهدٍ مَهيبٍ جامحٍ جليل، يُذكّرنا بفتح مكة المكرّمة، في اللحظة التي فقدَ فيها الجنودُ عقالهم، وراحوا يُمطرون الفاتحين بزخّاتٍ متتاليةٍ من القنابل الغازية والمدمعة والصوتية ورشقاتٍ متّصلةٍ من الرصاص، واستدعوا قواتٍ مدججةً جديدة، حاولت أنْ تقف في وجه الجموع، لكنهم -أي الجنود- أُسقط بيدهم من هَوْل ما رأوه ومن اندفاعة الفاتحين بصدورهم العارية وصرخاتهم المتصادية المدوّية.. فهربوا، بل اختفوا هم وبنادقهم.

ولعلّ كلمة السرّ في كلّ ما جرى هي نساء القدس، اللواتي بدأن رباطهنّ في الأقصى منذ عقود، وما زلن على حالهنّ في الساحات وعند الأبواب.. وكلّما أبعدوا إحداهنّ رجعت مُتخفّية، ومعها وجوهٌ جديدة.

وخلال الأربعة عشر يوماً من المرابطة، أغلق الاحتلال بوابات الحرَم الشريف، ونصب البوابات الإلكترونية والكاميرات، فتجمّع المرابطون على امتداد الطريق من الجثمانية شرقاً إلى باب الأسباط غرباً، بين المقبرتين، وكان ثمّة مرابطون في طريق المجاهدين وساحة الغزالي وصولاً إلى باب الواد.. اقتعدوا الطرقات المرصوفة بالحجارة الملساء.. إلى العتبات والأزقة المحيطة بكلّ مداخل الأقصى.

وكانوا هناك!

مانفيستو الاحتجاج

***

لقد شهدنا لعبةَ المجزرة، ولمسنا التعاقدَ المسعورَ بين ولاياتِ الموت وكيانِ المذابح، وكان الحقُّ مزحةً وحشيّة، ولم نحظَ بعُزلةٍ مجيدةٍ تُضيءُ حقولنا الروحيّة، لأنّ الهواءَ الملغومَ فخّخته قوىً دمويةٌ وفاحشة.

وحُرِمنا من الفرح الذي يرتفع مثل السهام، فكانت بهجتُنا تسقطُ في عقولِ الجثث، لكنَّ قلوبَنا لم تشعر بالملل.. لأنها تغذّت على النار! فَقُمنا بتخصيبِ مشهدِنا بِجَمالٍ مُقاوِمٍ جديد، ليبدأ عهدُ الضوءِ السماويّ.

وهيّأنا لصغارِنا نومَهم النقيَّ، وأحَطْناهم بالأغاني المُشرقة، وكان لا بدّ لهذه المظلمةَ أن تنتهيَ مثلَ الدخان.

ومَن لا يريدُ أن يرتعش، فعليه أن يخطو.

كان المطرُ عرقَنا، ودمُنا هو القوة، وألقينا أيدينا من السماءِ إلى الجحيم، وحاربنا سَحرةَ النومِ، والفنَّ المُضاد، وقلوبَ الموتى، ووقفنا أمامَ الذين يُؤدّون الحِيَلَ ويستمرئون الشبهَة، وأولئك الذين يتمتّعون بجودةِ القسوة.

كانت أفكارُنا تهربُ من وراءِ القضبان، وقلوبُنا ساخنةً مثل غيمةٍ ملتهبة، وتجاوزنا مرايا الغموض، التي لا يتألّق فيها أحد، وتجاوزنا الهاويةَ الداكنة.

لم نكن نريدُ أن نسحبَ أحداً إلى نهرِنا، غير أنَّنا كنّا في حربٍ مع التاريخِ، ومع جميع السلطاتِ التي تُقيمُ في أشكالٍ فاشيّةٍ ومخيفة، ومع ما يُقيّدُنا مع مخاوفِنا الخبيثة.. وأردنا لصورتِنا أن تكونَ ضدَ السماء الساكنة، لأن هدفَنا الأغلى والأعلى، كان وما زال هو قوّة الحقيقة، مثلما أردنا أن ننامَ، فقط، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين، كما رغبنا أن نلتقي غزالةً نعصرُ خصرَها مثل الأكورديون.. تحت زيتونةٍ تتربّعُ على كرسيّ الأبد.

باختصار، كانت لدينا قصتُنا القاسية الرائعة، ويكفي أننا انتصرنا على مَن كان ينظر إلينا كأنه ينظرُ إلى خطيئته، ذاك أنّ عينيه مليئتان بالسُّمِّ والهجران، واستطعنا أن نتخلّص من النهايةِ الخائبةِ بعسلِ التَجذُّرِ والرِباطِ الشريف، وأنْ نُعليَ صورتَنا النجميّةَ في كرنفالِ صلوات الأسباط الصوفيّة الفذّة، التي استطاعت أن تجمع البدرَ ليكتمل ويصلحَ للطقوسِ الأخيرة. لم يأتِ أحدٌ ليجدَ القدسَ أرضنا صِفراً، بل لديها إرثٌ باذخٌ، لم يتخثّر نُعمانُه، كصحنِ الجمر وبراعمِ الدمِ وسخونةِ البرق، لم نكن قطيعاً أو هائمين على السّراب، بل كانت لدينا حضارةٌ تتجلّى فيها النجوم ويتصادى فيها الإبداع الخلّاق الشامل، فكان الساحل منارةً للأُمم، مثلما كانت جبالنا أعراساً للطيور.

وقصدتُ أن أُساهمَ في تأصيلِ الحقيقة الغاضبة، لتصبحَ سبيكةً قادرةً على المواجهةِ، وحفظِ الذاكرة في المدارِك، وطردِ اللامبالاة والعجز واليأس واللاشيء.

وأنا على يقينٍ أنّ الكتابة تتطلّبُ الحقيقة وليس الإخلاص، على أهميته. والكتابة حياةٌ مثلما أنّ الحياة عملٌ فنّيّ، وكلّما علمنا قلّ فهمنا.. إلّا هنا، فقد اكتمل فهمنا وأصبح نهائياً وحقيقياً، خاصةً فهمنا لما جرى في القدس، ذاك أنّ ثمّة اثنين؛ مُحتَلّاً غاصِباً قاتلاً، وصاحبَ البيت المقهور.. ولا داعي للشرح! فالصورة واضحة.. ويكاد الأعمى يراها.

قبل أيام الرباط

***

تمرّ من تحت أقواس البيوت القديمة، وتمشي على درب الآلام، وتُعرّج على فرن السمسم والجمر الناضج، وتصلّي على مصاطب النّارنج، وتسير حيث الأنبياء والأولياء، وترفع عينيك لترى ورود الشرفات الذي يتدلّى مثل القناديل، فترى غيلاناً صغيرةً، تقدح بعيونها الناريّة.. وتفجعك الأشياء.

***

كلّما شقّوا فتحةً بين مداميك حجاره حائط البُراق لِيدسّوا أمانيهم الخائبة وتعاويذهم الخرافية، انطبقت الحجارةُ على بعضها، وتساقط الوَهْمُ تحت الأقدام.. وتأكدوا أنّ خريفَ التزوير يُذَرّي أوراقَ الفجور.

***

وكان أنْ شربوا من ينابيع أُخرى غير التي انفلقت من الحجارة، فأصبحوا منكفئين ووثنيين وخارجين ومتعثّرين في الظلام. وظلّوا حفنةً منعوفةً في الأمصار، لم يجدوا السعادة ولم ينصهروا في السوق الكبيرة، ولم يتماهوا في أعراس الأُمم المُبهجة، بل ظلّوا في تيههم، يعيدون إنتاج السواطير والقيود على غيرهم من الضحايا، وما زالت عبوات الدم مرصوفةً في مطابخهم، يشربون منها صباح مساء! من فيلون، وصولاً إلى سرمد المدافع عن الشيطان، وحتى آخر قاتلٍ مهووس.

ولَعلي أستنيم لقول البسطاميّ الصوفيّ فيهم: ما هؤلاء؟ هَبْهم لي، أيُّ شئٍ هؤلاء حتى تعذّبهم؟ إنهم واقفون في الماء عطاشى ..

وإنهم لعنة التاريخ،

ومصاصو دماء الأرض،

والمرابون مثل نارٍ نهمة.

***

يكرهون حروفنا ومياهنا وشعيرنا وغيومنا وأحلامنا وبيوتنا وشجرنا وغناءنا، ونحن نكره ما يفعلون.

***

في حقيبة يده حصاة! وجدها مفتّشُ الأمن في المطار.. قلّبَها وتفحّصها فوجدها حَجَراً صغيراً.. لا أكثر ولا أقلّ!

ما هذا الحجر؟ تميمةٌ أم ماذا؟! أُريد جواباً وإلّا ألقيت به في سلّة المهملات.

أجاب: لقد التقطتُهُ من تحت شجرة زيتون من ساحات الأقصى، وأتفاءل به في حلّي وترحالي.

ابتسم المفتّشُ، ووضع الحَجرَ في جيبه، وتمنّى لصاحبه السلامة.

***

بالرغم من كل تلك الخيانات لا تيأسوا، واصلوا العزف.

***

أرى عيوناً صغيرة ترى أحلاماً كبيرة، تقول: ستذهب الأيام الخشنة، وليالي الدم المحروق، وسيحلّ الحصاد الذهبيّ، ويبتسمُ النورُ في الظلام.

***

أنتِ حدودُ قلبي وأنا حدودكِ. أملي لا يُقهَر، وغرستي الشاحبةُ ستكون شلّالاً بين الغيوم، وستُصبح كلُّ المواسم ربيعاً، والسحاب على الجبال سُيولاً من الضوء. وأعرف أنّ ثمّة ساحراتٍ في الريح، لكنّ خيولي أتعبت الرياح! وهذا وَلدي الذي ثقب سهمهُ طيوراً مُحلّقة وقطع سيفُه الضوءَ، لأنه أدرك أنّ المَرَح لم يحن بعد. والشخص الجاهل غالباً ما يكون الأقوى. ولا يمكننا النجاة فقط لأننا جيّدون! ويعلم أنّ كلّ شيءٍ مُترابطٌ حوله مثل بيت العنكبوت، وقد تَدْهَمه الأشياء السيئة، وتأتي متكاتفةً يداً بيد، لكنه تعلّم القراءة بتتبُّع حروف اسمكِ، وها هو ينادي عليكِ.. يا بلادي..!

خلال تركيب البوّابات

***

انفزع الغرباء، وتراكضوا، وأغلقوا بيوتهم بإحكام، وشَخَص الجنود إلى السماء. لقد نزلت الأُسُود المحفورة من على جدران باب الأسباط، وراحت تتبختر بحريّةٍ في المدينة.

***

قبائل قديمة أُبيدت وتحوّلت أراضيها إلى غبار، لأنهم تمسّكوا برَقْصةِ الأشباح الأخيرة، أي أنّهم كانوا يرقصون حتى يسقطوا.

أما نحن، فلدينا ما لا ينتهي من الرّقصات، وقد عادت إلينا الأرواحُ الرّعديّة.

***

كلُّ شيءٍ يبدو عادياً وهادئاً، لولا الأشباح المُضمرة في العتمة.

***

كان فلاسفةُ النوم قد اطمأنّوا.. وظنّوا أنّ الصحوةَ مستحيلة! لكنّهم فوجئوا بأنّ التلّة التي يقفون فوقها هي فوّهة بركان، بدأ يتململ في الأعماق.. وها هو ينعف نثار يقظته الساخنة.

***

كلّ هذه الآلام ستصبح حرية.

***

السروة على حالها باسقة خضراء، تتمايل من نشوة الهبوب الرَّخيّ، والسروة تختزن الأعشاش، وتحفظ أسرار الطيور.

والسروةُ قد أَلِفَتْ تصادي النائحات اللواتي يَبْغُمْن على أفنان الهزيع، وتهيّئ لهنّ دموع الندى.

والسروة التي استشاطت الحرائق من حولها.. بقيت يانعةً نابضةً مُمرعة، لكنّ الأعشاش التي تساقطت أو هجرت أغصانها قد جعلتها تتخشّب، وتفقد نضارتها الفارعة! لكنّ مؤمناً سيتوضّأ تحتها لتعود طيورها المهاجرة.

***

ثمّة نَسبٌ بين المُصلّين والشجر.

***

لن تكون حُرّاً إذا لم تركب الحصانَ الوحشيّ.. وتَطِرْ.

***

أيها الجنود! مهما كان البسطار سميكاً، فسيهترئ.. وسيبدأ أَلَمُ المسامير قريباً.

أيها الجنود! أيتها الكائنات المُحطّمة! لا شيء لديكم هنا لتثبتوه.

أيها الجنود! العالَمُ سيكون أفضل من دونكم.

أيها الجنود! لقد نظرتم إلى السماء من جهةٍ خاطئة.

أيها الجنود! لقد سقطتم في امتحان الإنسانيّة، وصرتم تَصلُحون للهزيمة.

أيها الجنود! كيف تُحاربون مَن يعتقد أنّه على حقّ، ولا تهمّه الخسارة، لأنه لن يخسر غير قيوده؟!

***

قبل أن تقولوا: إنّ القدس عاصمتكم ! عليكم أن تفتحوا بالسواطير صدور الملايين لتخلعوا المدينةَ منها، وأن تُغلقوا أرحامَ النساء، وأن تهجّروا الطيورَ والفراشات، وأن تذبحوا الأغاني، وتطلقوا النارَ على النهار، وأن تطحنوا كلّ حجارة الطرقات والبيوت والمعابد وتنعفوها في المحيطات، وأن تحرقوا كلّ الكتب، وتخنقوا الحكايات، وأن تُنزِلوا السيّدَ المسيح من السماء وتصلبوه، وأن تصطادوا البُراق، وتهضموا الجبالَ في بطونكم، وتنفوا الزيتون من الأرض، وأن تمنعوا الشمسَ من الشروق،لأنّها لا تُشرق إلّا من أجل القدس، التي هي لنا، من قبل آدم وإلى ما بعد النشور.

***

عندما يخلق السّيئون شيطاناً، فإنّ الأشرار يولدون، لكنهم يصلحون للفناء والتلاشي.

أما الأخيار أصحاب المحراب، فإنّهم لا يجترحون غير الصلاة، ولا يصاحبون غير الملائكة، ولا يخلّفون إلا التراتيل والدموع، ولا يبدأون النهار إلاّ بتشريع شبابيكهم للعصافير والياسمين، ولا يفتحون لياليهم إلاّ للأعراس والمناديل. وكلّ ما يريدونه الحياة، كما ينبغي لها أن تكون.

***

العيون الملهوفة الجافّة تتفقّد السماءَ، وتشخص إلى ربّ البيت ؛ أنتَ السنَدُ الحارسُ أيّها العالي المُتعال! ليس لدينا سواك! أنواركَ تملأ المكانَ والزمانَ، إلهنا.. إلهنا.. مَن سواك.. ومَن سواك!

***

ينادون العروسَ بالغناء، فتخرج النجوم.

مشاهد من الرباط

***

شابٌّ يصلي واقفاً يحمل صليبه بين جموع الساجدين. اعتقله الجنود، لاحقاً، وفي الزنازين رأوه على وقفته وهو يستقبل الأقصى.

***

النساء ، في باب الأسباط ، مخلوقات الضوء ، والصوت السماويّ ، وسلّة البذور المُعافاة المليئة بالنبض والبدايات .

وسلالُ القتلة محطّمة .. مهما ارتفعت للسماء ، ستبقى فارغة .

***

ها هم يُضرّجون الغيومَ بأقدامهم المُدمّاة وجماجمهم المُحطمّة، ولم يسقط العَلَم!

***

اندفع المرابطون وأعادوا فتح الأقصى، ولم يجعلوا الطرقات تنتظر أكثر من أربعه عشر يوماً!

كان الأمل يرعش ضوءاً في عيونهم، والرياح تغنّي ألحانهم، كأنَّ الحوريّات المُتيّمات على موعدٍ معهم في بستان الصلاة.. وخلاخيل البرق تُحيط بأقدامهنّ.

***

ربّما، رُبّما يضيع اسم هذا المرابط أو ذاك، في مكانٍ ما، في صفحات التاريخ، لكنّ الأقصى هو الناسُ والدفترُ السرمديُّ، وهو الشجرةُ التي تُعطي الظلَّ والثمرَ والنارَ، وهو تجربةُ الجَنَّة الأولى.. لنبلغَ الخلود.

***

بَطنُها أمامها! إنها حاملٌ في شهرها الأخير، وكان عليها أن تخترق حاجزَ الجنود، لتصل إلى باب الأسباط. وربّما عَتب عليها المُرابطون، وقالوا لا تثريب عليها إنْ بقيتْ في بيتها! لكنهم كبّروا وقصدوا مكانها عندما مدّت يديها تحت عباءتها، وراحت تلِدُ الرايات وتُكوّمها.. بألوانها الواضحة أمامهم لتخفق عالياً، وعلى مدّ البصر.

***

انتبهَ إلى أنّ المرابطين بعد صلاة الظهر والعصر يجلسون، ولا يفعلون شيئاً، وحتى لا يدركهم الملل، قصد بيتَه وحمل الكثير من مكتبته، وعاد بها في عربة.. وراح يُوزّع الكتب على الجالسين! فسأله أكثرهم عن كتابٍ يُحقّق المتعة والفائدة، ويسترعي الانتباه.

وراح المرابطون يتبادلون الآراء فيما قرأوا، وينصحون بعضهم بهذا المؤَلَّف أو ذاك.. وصار للمكتبة ركنٌ معروف، وزوّدها آخرون بمؤلَّفاتٍ جديدة! وبات غسان كنفاني والمتنبّي والغيطاني وإبراهيم عبد المجيد وحمزاتوف وطوقان وساراماغو وغستاف لوبون ونزار قبّاني وسوزكيند والشافعي ونجيب محفوظ وأولغا توكارتشوك وبدرية البشر وليلى العلمي وعبد الرحمن منيف وسعود السنعوسي وأحمد شوقي وأحلام مستغانمي ويوسف إدريس وسعد الله ونّوس وأحمد فؤاد نجم ومظفر النوّاب والشيخ الشعراوي وشولوخوف وعزيز نيسين وسول بيلو وعبد اللطيف عقل ولطفية الدليمي وإدوارد سعيد وماريو فارجاس لوسا وممدوح عدوان وأنطونيو بورتشيا والياس خوري وابن المقفّع وهيكل والنفّري ومحمد أركون والجاحظ وداريو فو والماغوط وباتريك وايت والطيّب صالح وابن تيمية وتوفيق زيّاد وأحمد سعداوي ومعين بسيسو وابن حجر وسميح القاسم وأمل دنقل... مُرابطين!

وصارت أسماؤهم تتردّد على الشفاه المُعجَبة أو العارفة أو المُستَفسِرة.

وعندما سألني أحدهم عن كُتبي، قلتُ له: اقرأوا لمَن لا يستطيعون الوصول إلى القدس، فقد جئتُ لأقرأ كتابَ الأسباط.

***

لم يكن غير مصوِّرٍ صحافيٍّ أجنبي، لكنَّ جندياً هجم عليه وحطّم الكاميرا وانهال عليه من دون رحمة! لقد رآه وهو يلتقط صورةً للحَمام الذي حطّ على أكتاف المرابطين عندما وقفوا للصلاة.

***

لسنا على جزيرة العار ، التي قيّدوا على صخرتها الشباب "العبيد" ، الذين وُلِدوا تحت برج الأفعى ، وساقوهم عُراةً إلى العالَم الجديد ، فصاروا ملحَ البحر، بعد أن كان لهم سرير الرمل أراجيح وأعذاق ، وأمست الأمواجُ أكفانَهم ، وضجّ الأزرقُ المخيف بصوت جثثهم وبالسلاسل الصدئة . ولسنا خِرافاً بلا قرون ، رغم أنّكم مثل أجدادكم المُذنِبين ، تقفون خلف أسلحتكم المَذخّرة ، وتتمنطقون بالقنابل الغاضبة .. لكنّ شيئاً ما يتمسّك بنا نحن المُلَوَّنين ، هو الحياة البيضاء ، لمواجهة معرفتكم السوداء العنصرية البغيضة ، التي ورثتموها من حفلات التطهير العرقيّ وسلخ فروات الرؤوس واغتصاب القاصرات .

***

نعم، إنها العروس بين جموع أهلها وأهل خطيبها، بثوبها المُطرّز البديع! وتقدّم الشيخ وعَقَدَ قرانهما وسط المرابطين المُهنّئين، وتشجّع الشبان وراحوا يرقصون، فَشَبَكَ الشيخُ يديه معهم وهو يقول ؛ غَنّوا! ليعلموا أنّ في ديننا فُسْحة.

***

مَن الذي نَصَبَ المراجيحَ في الساحة، في اليوم الخامس عشر؟!

ها هي الضفائر تُلوِّح في الهواء، والفساتينُ الصغيرة تُطْلقُ بلالينَها الملوّنة في السماء، والجموع تهنّئ بعضها وتتعانق، والألعاب الناريّة تتفشّى ضياءً في سَقف المدينة، والدّفلى يطرق الأبوابَ ويترك أغصانه فوقها.

إنها قوّة الحياة في المدينة! ومساؤها أساور وكعكٌ وعطرٌ وليمونٌ وسُكَّر.

إنه العِيد.

***

الحربُ التي تُسلِّم أفضلَ أولادها للمقاصل ، هي التي ثقبت قلبَ أُمّهم بالسّهم المكسور .. ومع هذا لم يوقِفوا طبولَ القتال ، رغم اللحن المشؤوم الذي يطاردهم ، وهم يقترفون المذابح بحقّ الطيور والرُّضّع ، وكانوا أكثر من شهوانيين مزّقوا بطون الصغيرات .. وقهقهوا !! .. لهذا سيتيهون مرّة أخرى في سراب القحط .. وسنبقى هنا تماثيل نور تنتظر مَن عاد إلى صوابه ، لنسهر معاً على الأبواب ، ننتظر السلامَ والغيوم الملوّنة .

***

***

إذا نظرتَ إلى شيءٍ يلمع مدةً طويلةً، فسيعمى بصرك بسببه! إلاّ قبّة الصخرة، فكلّما نظرتَ إليها توالدت في وجهك العيون.

***

الأُسود الأربعة المنحوتة على يمين باب الأسباط ويساره هبطت من نَوْمتها الحجريّة وأَقْعَت أمام الجنود، وراحت تنفضُ عنها سكون الأزمان، وها هي عيونها تقدح، ومخالبها تحتدّ، وزئيرها يتفشّى مثل هبوب البركان، وراحت تتقدّم بِحَذَرٍ وثقة، ولم يتمكّن الرصاص من خدش وَثَبَاتِها وهي تنهش الجنود وتخمش وجوههم المرعوبة.

***

كان الصباح بانتظارنا! نِصفُه لنا ونِصفُه لهم.. لولا أنهم آثروا العتمة وظلّوا غائصين في وحل الليل.

***

المسجدُ الجريحُ يُؤلِمُ الوطنَ كاملاً..

***

لقد لسَعَتْنا نارُ إغلاق البوابات لنُنقذَ المسجدَ من الحريق

***

الطيور الغريبةُ في القدس.. لن تُجيد الغِناء!

***

سيفرِدُ حفيدُ أبي حامد الغزاليّ بساطَه، ويتربّع أمام تلاميذه، وسيطلب منهم أن يُنصتوا جيداً ليستمعوا إلى الصلاة الممتدة.. وإلى قعقعة الأسلحة التي يذخِّرها جنودٌ غرباء.. وإلى ارتطام الصدور بالدخان وتصادم الأكتاف بالحديد.. وإلى تكبيراتٍ عمّت المكان.. وإلى صبيّةٍ تزوّجت عشرين رصاصة.

***

وسيسأل العابرون إلى الأقصى : ما هذه الريح الزكيّة! ويقولون: إنّها دماء صبيّةٍ تزوّجت يوم الفتح.

***

الجنديُّ الذي مَعَسَ ببسطاره حوضَ النعناع أمام تلك الدار في باب حُطّة.. رجع وقدمُه تهرّ دماً! لقد مزّقتها أشواكُ العوسج.

***

هل رأيتم السراج الذي هبط من السماء على القُبّة، ولفّ غير مرّة، ثم عاد مُسرعاً؟

إنها الأسوار السماوية التي تردّ العواصف الهجينة..

***

من الخطأ أن تخاف من الأشخاص الخطأ .

***

يُطلق البرقَ من كفّه، وتمشي إليه المتاريس، وتقاتل معه الملائكة .. ويُطرّزه الرّصاص !

إنه خبز حياتنا الدّامي، وكأس الخلاص المُرّ، وفرحتنا الخانقة، وما تبقّى لنا..

نُطلق اسمه على الشوارع التي لم يمشِ عليها، ونرفع مُلْصَقَه للشمس، لعلها تشرق، غير مرّة، في النهار..

وما فتئ يتكوّر في الأرحام، لنطبع على وجهه قُبْلتنا الحارقة.

ونحلم لأن يكون زفافه على الأرض.

***

سذاجة العاصفة أنها فائقة الوضوح وشرسة ، وتطفو فوق اليابسة، ولا تُفرّق بين ما تلقاه، وربّما هي متورّطة بأشياء غامضة، لهذا تلبس ثيابها سريعاً وتخرج من بيتها .. ولا تعود.

شئء آخر !

ما هو ؟

لا شيء سوى أن المدرسة علّمتنا أن ننحني لها ! لكنّنا خيّبنا أملها.

***

عندما يموت شخص فاسد ينتهي حُكْمُه . وحينما يرحل شخصٌ صالح يبدأ حكمُه .

***

الفهد الذي كان يطارد الغزلان في اللوحة المعلّقة على الجدار، هو الذي هفّ مسرعاً، ووثب على الضابط الذي استباح البيتَ مع جنوده !

***

البعض مدفونٌ داخل جسده، ويكابر أنه حيّ !

بدليل أن سيفه يشرّ دماً .. ويصيح !

***

الطالبُ الجامعيُّ الذي التحقَ بالمُرابطين راح يُراجع دروسَه، فَسَأله رجلٌ هرمٌ: ماذا تقرأ يا ولدي؟

أقرأُ قصيدةً للإسبانيّ خورخيه مانريكا، يقول فيها:

"المعركةُ الوحيدةُ التي قاتلتُ ضدّها هي انعدام الأهميّة".

هزّ الرجلُ رأسه، وقال: هذا شاعرٌ يصلُح لنا.

***

من الصعب أن تكون شجاعاً.. إذا كنتَ وحدك!

فالجماعة هي الإشارة الخاصة التي يحتاجها الناس لكي يؤمنوا بقوّتهم الجسورة.

***

***

الانتصار على الناس العزّل بالقوّة الباطشة.. مثل الرّقص بلا موسيقى! ارتباكٌ وترنُّحٌ وتعثُّرٌ وطَيشٌ وجنونٌ ولعثمةُ مخمور.

***

القدسُ كنزٌ مفتوح، قد يُغري السارقين! لكنّهم سيرجعون من دون أياديهم القذرة، التي تسلّلت لتنهبَ القلائد المُرصّعة.

***

بحثتْ عنه، وأخذتها الوساوسُ إلى الفَزَع.. أين ذهب؟

أسرعتْ نحو باب الأسباط لعلّها تجد ابنها ذا الأعوام الثمانية، فوجدته قد تعربَشَ على سور بيتٍ قريبٍ وحمل بيديه كرتونةً.. ليُظَلِّلَ بها على المُصلّين.

ابتسمت، والماء يفيض على وجهها.

***

لم تعد نساء "أواريس" يَحبَلْنَ من هَوْلِ ما شاهدنَ من فظائعَ مريرةٍ في الحرب، لكنَّ امرأةً من القدس بَقَرَتْ بطن "أبوفيس" المحتلّ، وولدت "أتحمس" الذي انتصر وغَنم السفن والفؤوس النحاسية والكثير من الزيوت والعسل، وضربت بحذاء "خروتشوف" على المنصّة العالمية. وها هي بابل تعود إلى حدائقها المعلّقة وشمعتها البيضاء، مثلما يركب الفندلاوي على حصانه ويرفع رايته في إيبلا الشام، وسيصل عمّا قريب إلى الكرنك، مروراً بأرضٍ حُرّةٍ تتوسّطها القبّةُ الباذخة.

***

هذه الدموع البيضاء من الغيوم السوداء. ولا بأس في أن يبكي الرجال.. فرحاً! فقد سطعت كلُّ الحجارة فورَ أنْ قبَّلَتها الأقدام أو لامستها جِباهُ الشاكرين الساجدين، والسماءُ صافيةٌ.. على غير عادتها.

***

ليعلموا أننا لم نتحاسب مع جنوننا.. بعد!

***

ويبقى باب الأسباط ضحكةَ فاطمة وبُشرى مريم، ووجوهَ الضوء التي أزالت الصدأ عن حجارة الخلود، وسيبقى تجربةَ العارفين الذين وصلوا إلى مجد النور، ليُتمّموا الوَصْلَ كاملاً، ولو بعد حين! فما زالوا في أرض السماء، وما فتئت تعازيمهم تُنبئ بالكَشْف..

وطوبى لأسباط المدينة.