الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

البنيةُ الصوتية في قصيدة "ما لم يقله البؤساء" للشاعر محمد الشاعر

نشر بتاريخ: 05/01/2021 ( آخر تحديث: 06/01/2021 الساعة: 12:10 )
البنيةُ الصوتية في قصيدة "ما لم يقله البؤساء" للشاعر محمد الشاعر

بقلم الأستاذ: محمد جلال عيسى
القراءة الإحصائية للقصيدة تقدم تصوراً تجريدياً لطبيعة دوالها, وتبلغ عدد أبيات القصيدة ثمانية عشرة بيتاً. وقد شغلت صيغة الاسم حيزاً أكبر من صيغة الفعل, مع ملاحظة أن النظر في صيغة الاسم يقتضي صرف النظر عن "الضمائر, والإشارة, والموصولات باعتبارها مؤشرات ناقصة الدلالة؛ لاتكائها على مرجع خارجي يحدد مدلولها, كما يقتضي صرف النظر –مؤقتاً- عن صيغ اسم الفاعل, والمفعول, والمبالغة, والتفضيل, والصفة المشبهة؛ إذ إنها تقع –دلالياً في منطقة وسطى بين الفعلية والاسمية"( محمد عبد المطلب, 1995: 57-.58),ولعل طغيان الصيغة الاسمية على نظيرتها الفعلية يعطي مؤشراً أولياً لميل الذات المبدعة نحو الثبات أكثر من النزعة نحو التحرك التي يقتضيها الفعل بدلالته على الحدث والزمن معاً.
وفيما يتعلق بالإطار الإيقاعي للقصيدة, فالقصيدة من البحر البسيط, الذي قال فيه الخليل أنه: "انبسط عن مدى الطويل وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن"( ابن رشيق القيروان,1981, ج 1: 136.), الأمر الذي أتاح للشاعر -محمد الشاعر- طول نفسه لملء هذا البناء العروضي بمادته التعبيرية التي تتفجر منا مشاعر الحزن والألم, فعمد الشاعر إلى هذا البناء؛ لأنه يحاول إبراز دلالة الألم العميق بداخله, والكشف عن معاناته, وقد ولّد الشاعر من هذا الوزن أروع الموسيقى وأشدها أسرا في صور تكاد تنطق للمتوسمين, راسماً الحياة بكمٍ هائل من آلامها بدءًا من الماضي المؤلم إلى ذاك الشبح الذي ما فتئ يطارد الشاعر وينغص عليه أورع مراحل حياته (مرحلة الشباب).
ولم يقتصر توظيف الشاعر للقافية على تشكيل الجانب الإيقاعي, فاختيار محمد الشاعر حرف الراء ليكون قافية قصيدته, يصدر عن نفسية حزينة متوترة ترغب في الأمن والاستقرار, وترغب عن الانكسار, وهذا يعني أن "العلاقة بين الفكرة والقافية مرتبطة ارتباطاً باطنياً خفياً لا يظهر للعيان إلا أن خفاءه هذا واستتاره لا يمكن أن يلغي وجوده" (يوسف حسين بكار,1982:74.), فكأن القافية هي الصوت الآخر للشاعر, أو هي الترجيع النفسي الذي يتلاحم مع المعنى في جو إيقاعي يوحي بالتأزم والاضطراب الناتج عن كم الألم الذي تظهر القصيدة, فصوت القافية عند محمد الشاعر يتلاءم مع المعنى ويتعاضد معه, فالراء من الأصوات الجهرية التي تهتز معها الأوتار الصوتية, ويحمل دلالة الاهتزاز والاضطراب و التخريب, فله دلالة الحزن واليأس والضياع, فالشاعر يعاني من فراق وضياع وألم.
كما عمد محمد الشاعر إلى توظيف كم كبير من الأصوات المجهورة, إذ بلغ عدد انتشارها في القصيدة (463), وهي كمية صوتية كبيرة تستدعي جهداً صوتياً عالية, ونفساً طويلاً لنطقها, وهذه التوظيف ليس منعزلاً عن السياق, ويبرر التوظيف الكبير للأصوات المجهورة نفسية محمد الشاعر المتأزمة والأصوات المستعملة دلالة على ذلك, فتوظيف اللام على سبيل المثال ورد أكثر من سبعين مرة, وهو إشارة على رغبة الشاعر في الاستقرار والتماسك, يقول:
لَـمْـلِمْ بَـقـايَاكَ وارْحَــلْ أيُّـهَـا الـسَّمَر
يَــكــادُ قــلْـبـي مِـــنَ الآلامِ يَـنْـفَـطِرُ
وحرف النون الذي جاء يحمل دلالات الألم, وقد يحمل أيضاً معنى "الاهتزاز والاضطراب وتكرار الحركة" (حبيب مونسي, 2002م: 50.), كما في الدوال التي يوظفها الشاعر (يَـنْـفَـطِرُ ,حُــزْنُ, تُغْرقُني, تَـنكسِرُ, طُوْفانُ, نَـارُ, كنَحْرِ, تَـنْحدِر, مُنْقذِفًا, يَـنْصَهِرُ, سِكِّينُ, تَصْــفعُنـي, الـسِّجْنِ, يَعْصِرُني, يَنْكَدِر), هكذا تتجلى براعة الشاعر في حسن توظيفه للحروف العاكسة لمشاعره الداخلية ووجدانه.
وإذا تجاوزنا الأصوات المجهورة وانتقلنا إلى الأصوات المهموسة فنجدها أيضاً ذات حضور في القصيدة, وأكثرها انتشاراً هو صوت التاء, الذي يوحي بالشدة والغلظة والقسوة والقوة, ومن ذلك قول الشاعر: (تُلْقي, تُـــرَاوِدُني, تَـــزْدَهــرُ, لا تُــبْقِـي وَلا تَـــذَرُ, مُــعْتكِفًا, يَعْتَمرُ, تَـنْهَمـرُ, تَصْــفعُنـي, يَــتْـرُكنـي, يَـحْتـضِر, الـمَــوتِ, تَمادَتْ, المَوْتِ, تَـنْحدِرُ, احْتزَّ, أُخْـتَبر, يَسْتَعِر, تُغْرقُني, تَـنكسِرُ), ويتضح في ضوء ما تقدم أن توظيف الحرف إنما هو مرآة عاكسة لإحساس الشاعر في قالب إيقاعي.
واشتملت هذه القصيدة على ثلاث بنيات زمنية, كل واحدة تمثل حالة شعورية عاشها محمد الشاعر, تتمثل الأولى في زمن الصراع؛ ويقصد به الزمن الذي يعيشه الشاعر, ويمثل له الهاجس الدائم الذي ما فتئ يؤرقه, ويظهر ذلك من خلال التراكيب الدالة على الصراع, والحالة المأزومة سواء كانت أفعالاً أو مؤشرات أخرى, فالسمر لدى الشباب هو عصب الحياة, ونرى محمد الشاعر الشباب في هذه القصيدة ينصرف عما هو جميل, يقول:
لَـمْـلِمْ بَـقـايَاكَ وارْحَــلْ أيُّـهَـا الـسَّمَرُ ..
يَــكــادُ قــلْـبـي مِـــنَ الآلامِ يَـنْـفَـطِرُ
مَا عَادَ لِي فِي حيَاتِي وَصْلُ مُقْتربٍ
وَحُــزْنُ يَـعْـقُوبَ فِـي عَـيْنيَّ يَـنْتَشِرُ
فالسمر واقتراب الآخر من الشاعر تحمل مؤشرات عدائية, كأنها تقف أمام تحقيق نشوته, وتزيده ألماً, وربما نشأ في ضميره إحساس حاد عميق بأن زمان الصفو والعيش الوريق قد تولى ولن يعود, فينعكس هذا الصراع النفسي الذي شب في نفس الشاعر على قصيدته –موضوع الدراسة-, التي تعكس موقف اليائس من الحياة, يقول:
الـبُـؤسُ قَــدْ جَـزَّ مِـنْ قَلْبي سَـنَابَـلَـهُ
ورَوْضَـةُ الـحُـبِّ فِـي أعْمَاقِـهَا سَـقَـرُ
كُــلُّ الــبَلايا عَلى رُوحِي مُــكدَّســـةٌ
وثَــوْرَةُ الــحُزنِ لا تُــبْقِـي وَلا تَـــذَرُ
فالزمن هنا يتمثل في شبح البؤس, الذي يلقي عليه كل البلايا فلا يبقي له ما من الحياة من يسره أو يجعله ينعم بالسلام, وعليه فقد لعب الزمن دور البطولة في هذه القصيدة؛ استناداً إلى دور اللغة الفاعل في كشف توتر الذات وصراعها.
وجاءت الأفعال في هذه القصيدة مضارعة مؤلمة تحمل كماً من القسوة, (يَـنْـفَـطِرُ, تُغْرقُني, تَـنكسِرُ, هَـشَّـمَ, دَمَّـرَهـا, يَسْتَعِرُ, احْتزَّ, يَـنْصَهِرُ, يَـحْتـضِرُ, يَــتْـرُكنـي, تَصْــفعُنـي, يَعْصِرُني), فالشاعر لا يستطيع ان ينفصل عن حاضره المرير, فيستحضر أفعالاً مضارعة يقع تحت تأثيرها المؤلم, وهذه الأفعال تشير إلى الزمن الحاضر وقسوته, فتدخل الشاعر في صراع مع ذاته المتشظية, ذات مع الحب وأخرى منتصرة بالكبرياء والأنفة رغم أنه يستسلم للألم في واقعه لكن يبقى محافظاً على كبريائه, يقول:
إنِّـي أسِـيْرُ الـمَدَى وَالـقَـيْـدُ يَعْصِرُني
وَصَـاحِبُ الـسِّجْنِ مِنْ رُؤيَايَ يَنْكَدِرُ
لكنه في نهاية القصيدة يفيق على حقيقة مرة فرضها زمنه المشؤوم, فيتحول محمد الشاعر من مركز القوة (الشباب), إلى مركز الهرم والضعف, فليس لديه ما يحيى لأجله,
لَا بُشْرَياتُ الهَوَى تُلْقي قَمِيْصَ هُدَىً
وَحْـدِي كَـفِيفُ القَذَى وَحْدِي وَلَا أثَر
يستبطن شاعرنا من قميص يوسف دلالات عميقة, إذْ يشير بها إلى وجود الخدعة أو المؤامرة, فاتكأ الشاعر على الجانب الدلالي لقميص يوسف؛ لإيصال رؤيته بمنطوقها الدلاليّ, الذي يفيد حالة اليقظة التي يعيشها في نفسه وذاته.
وما سبق يوحي بأن حركية الصراع في هذه القصيدة تكشف عن براعة الشاعر في تصوير صرخاته الوجدانية الحبلى بالشجن والتأسي وقهر الزمن له, فالشاعر يحاول التصدي لرحلة التغيير التي لعبها الزمن فعكر عيشه ودمر أحلامه وأمانيه في زمنه الحاضر.
أما البنية الثانية, فتتمثل في مرحلة الهروب حيث يكون الشاعر في غفلة من الوعي ينقله إلى التاريخ والماضي الذي يخلو به في هذه القصيدة, فتتناثر كلمات محمد الشاعر مع الألم الذي يحيط به فيهيج أشجانه, فتأتي التراكيب في شريط فوتوغرافي يصور في الشاعر كل الألم الذي حلّ بأنبياء الله, فنراه يحن دائماً إلى ذلك الأمل في قصصهم, على نحو من الاسترجاع الذي يشبه (الفلاش باك), فهو يجد في ذلك الزمن مجالاً لتحقيق حريته, ومن أكثر الصور التي يهرب من خلالها الشاعر إلى ذلك الزمن صورة الظليم, يقول:
يَا بَحْرَ مُوسَى ألَا يَكفيْكِ تُغْرقُني ؟!
فِــي لُـجَّةِ الـيَأسِ وَالأحْـلامُ تَـنكسِرُ
قَــدْ هَـشَّـمَ الـمَـوْجُ آمَـالِـي ودَمَّـرَهـا
يَـا نُوحُ ، طُوْفانُ رُوحِي صَارَ يَسْتَعِرُ
يرى الشاعر في البحر منقذاً, لنبي الله موسى عليه السلام, في حين أنه يرى في هذا البحر هو الذي يغرقه في الألم واليأس, فيوظف في هذا لغة عاطفية يعيشها أو عاشها, مصوراً إياه في مشهد الظليم الذي يدفعه الزمن إلى الألم المعاناة, فيهرب إلى الزمن الماضي الذي يرى فيه الطوفان –كما في طوفان نوح- هو المخلص للحياة من الشر الذي يحيط به, لدلالة على الرغبة في الخلاص من إطار الزمن المرفوض.


ونصل إلى ثالث بنية (زمن اليقظة), حيث تتجلى الرؤية اليقينية للشاعر, ويسلم للأمر الواقع عبر نسيج شعري متآلف من تجارب السابقين, وهي رؤية سوداوية للزمن, تجعله ينظر إلى الواقع نظرة حالكة السواد, يقول:
الـبُـؤسُ قَــدْ جَـزَّ مِـنْ قَلْبي سَـنَابَـلَـهُ
ورَوْضَـةُ الـحُـبِّ فِـي أعْمَاقِـهَا سَـقَـرُ
الحب في هذه القصيدة هو حبل من حبائل هذا الزمن الذي لا يعرف إلا الفناء, ويقضي محمد الشاعر في سرد أبيات قصيدته التي تتفجر بالمرار والسوداوية قائلاً:
سِكِّينُ ذَبْحي تَمادَتْ مَزْقَ أجْنِـحَتِـي
وَطَائرُ الـمَــوتِ فـي عَيْنيَّ يَـحْتـضِرُ
وهنا نلاحظ أن شبح المعاناة ذلك الطائر الذي يحلق بجناحيه في فضاء القصيدة يتربص بالشاعر, إلا أن الدال يحتضر يشير إلى رؤية يقينية, تهز الصورة في مفارقة أسلوبية مدهشة, وكأن هذا الدال سيف صرم حبل أفكار الشاعر, فرغم هذه المعاناة وهذا الألم فهذا الطائر سيحتضر وسيكون مصيره الزوال, وإدراك محمد الشاعر لهذه الرؤية يكشف عن توقد بصيرته وتأزم حياته في ذات الوقت.
أما فيما يتعلق بالسياقات الدلالية والظواهر اللغوية في القصيدة, فيرد في البيت الأول استهلال وأمر يُبرزان صوت الشاعر المتحدث في لحظة راهنة, يستهلها بالفعل (لملم), الذي يوهم بالانتقال من الحاضر إلى المستقبل, ويستهل الشاعر قصيدته بذكر (السمر), فيصوره وكأنه شيء يؤلم قلبه, ثم ينقلنا محمد الشاعر إلى موقف آخر يبتدئ منه استدعاء الماضي, فيقول:
مَا عَادَ لِي فِي حيَاتِي وَصْلُ مُقْتربٍ
وَحُــزْنُ يَـعْـقُوبَ فِـي عَـيْنيَّ يَـنْتَشِرُ
وحينما نقلنا الشاعر إلى هذا الاطار فإنه ينطوي تحت التلميح والإيحاء, فاستدعاءه لشخصية (يعقوب) –عليه السلام- يوحي بحالة شعورية يشير من خلالها بالحزن والمعاناة التي يكابدها, فيعمد الشاعر إلى تصوير معاناته وألمه عن طريق استلهام مواقف من التاريخ, ليشير إلى أن هو المؤمن المعذب على مر التاريخ, فيقول:
يَـا نَـارُ هَـلَّا رَحَـمْتِ الـقَلْبَ ثـانِيةً ؟!
مَـا كُـنْـتُ يَـومًـا كـ إبْـرَاهِـيْمَ أُخْـتَبرُ
فلا يضير المبدع أن يستلهم من موروثه الثقافي ما يُجمِّل به تجربته الإبداعية, فاستلهام الشاعر لقصة إبراهيم عليه السلام مع النار؛ لتشير إلى أن هذا الشاعر يتعرض للظلم, فتتسلل هذه الصورة إلى القصيدة عن طريق التمثيل, ليكون لها أثر أقوى وأبلغ عند المتلقي, الأمر الذي يؤصل للدلالة التي تظهر بأشكال إيقاعية في القصيدة, ليحقق التناغم الفكري والعاطفي والمعرفي عند الشاعر.
ثم يأتي محمد الشاعر بدوال تنتمي إلى حقل الطبيعة, فإذا نحن بإزاء صورة بصرية قوامها (بَحْر, الـمَـوْجُ, طُوْفانُ, نَـارُ, جِـبَالَ, طَائرُ, غَـيْثُ, سَـنَابَـلَ, قَمرُ, شَـمْسٌ), ينقلنا الشاعر من خلالها من المعنوي المتمثل في الحزن والاضطراب المتدافع في الوجدان إلى الحسي المتمثل في مادية الطبيعة التي يسخرها لاستحضار الألم والمعاناة من اتصاله بالمورث الديني, حيث يضفي درامية على قصيدته, فقد نجح محمد الشاعر في استدعاء الشخصيات الدينية في نسيج نصه الشعري, وتوظيف دلالة هذه الاستدعاءات بما يخدم النص.

------
عبد المطلب, محمد :قراءات أسلوبية في الشعر الحديث, الهيئة المصرية العامة للكتاب, مصر 1995, ص: 57-.58.
ابن رشيق القيروان: العمدة في محاسن الشعر, تحقيق/ محمد محي الدين عبد الحميد, ط 5, دار الجيل, لبنان, 1981, ج 1, ص: 136.
بكار, يوسف حسين: بناء القصيدة في ضوء النقد العربي القديم, ط 2, دار الأندلس, بيروت, 1982, ص:74.
مونسي, حبيب: تواترات الإبداع الشعري, ط 1, دار غريب للنشر والتوزيع, الجزائر, 2002م, ص: 50.