الثلاثاء: 14/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

قرأت كتاب عيسى قراقع الجديد فوجدته يتحدث عني ويفضح أسرارنا الصغيرة

نشر بتاريخ: 11/11/2021 ( آخر تحديث: 11/11/2021 الساعة: 18:02 )
قرأت كتاب عيسى قراقع الجديد فوجدته يتحدث عني ويفضح أسرارنا الصغيرة

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام


لا يعرف فرحة صدور كتاب جديد الا من انتظر وعاش تلك اللحظة. دخل المناضل عيسى قراقع على المكتب ووجدني مع الصديق كامل حميد نقارن الثورة بالسلطة. وبفرحة غامرة كتب لنا الاهداء واهدانا ثمرته الجديدة.
الكتاب بعنوان (الدهيشي) نسبة الى مخيم اللاجئين الدهيشة والذي أقامته وكالة الغوث عام 1949 جنوب بيت لحم لإيواء مهاجرين ضلت بهم السبل من 45 قرية احتلها العصابات الصهيونية. ومنذ ذلك اليوم اعلن شباب الدهيشة تمردهم على كل الحكومات وعلى كل الظلم في هذا العالم اللئيم.
عيسى قراقع صديق الزنزانة. كنت معه ومع كامل حميد في جامعة بيت لحم، ثم التقينا في عنابر سجن الخليل في بداية الثمانينيات برفقة الشهيد شادي درويش الذي نجح في الفرار من السجن وقفز عن الطابق الثالث والتحق بخلايا الثورة قبل ان يستشهد كفتحاوي أصيل, وكان معنا الأخ أمين السويطي وعوني المشني ومحمد الحوراني وقدورة فارس وجمال الشوبكي وعمر الحروب وحسين الشيخ وجبرين الرجوب وبدران جابر وشعوان جبارين وحسن عبد الله وعبد العزيز أبو عطوان وجبريل البكري وأبو خليل اللحام وعيسى أبو عرام وزياد أبو عين وكوكبة من الاسرى المناضلين.

عيسى قراقع كان يفاخر امامنا بصدور اول ديوان له ولمحمد شريم وموسى حداد) ويحمل اسم(ترانيم للزنابق الفلسطينية ). وكنا نقرض الشعر ثم نقارن قصائدنا الفقيرة في الزنازين بأشعار نزار قباني والجواهري ومحمود درويش وسميح القاسم وعز الدين مناصرة، ونحاسب انفسنا بقسوة وسخرية لدرجة جلد الذات حتى تمتلأ الزنازين بالضحكات فتنزل دموعنا من الفرح. لا سيّما عيسى أبو عرام رحمه الله فقد كان حافظا للشعر ويلقيه بطريقة فروسية تليق بفارس حر من يطا .
عيسى قراقع ليس سياسيا فتغضب عليه، ولا تاجرا فتغضب منه، ولا وزيرا فتطلب منه، ولا منافسا لتحاربه. عيسى كان ولا يزال ناسكا مؤمنا بالمقاومة في دير الثورة. لم يغادر صومعته مهما تكالبت علينا الأمم. وليس امامك سوى أن تحترمه وتنظر بكل الاعجاب لحكايته التي تلخص حكاية جيل كامل .
قلت لصديقي كامل حميد: كم من جيلنا من أبناء الحركة الوطنية بقي على قيد الحياة في بيت لحم ؟ نحو 50 نفرا !!
وكم من الذين بقوا على قيد الحياة يرغب في العمل العام؟ نحو 10 أشخاص !!
قال كامل نعم .. نحو هذا الرقم .
قلت: وكم من العشرة لائق للقيادة صحيا وفكريا وسلوكيا؟ نحو 5 أشخاص! قال بلى .
قلت: هل يعقل ان لا يتسع الوطن لهذا العدد من الذين بقوا على قيد الحياة وعلى قيود الثورة!
الدهيشة هنا في كتابة عيسى قراقع هي الجلزون وهي الامعري وبلاطة والعروب ومخيم شعفاط وطولكرم وعايدة وعين الحلوة والوحدات وصبرا وشاتيلا وكل مخيمات اللجوء التي قال عنها غسان كنفاني انها سفن العودة ولم يقل عنها انها الوطن البديل . يقول عيسى قراقع في كتابه ( الدهيشي ).
الدهيشي ليس اسما مذكراً ولا مؤنثا, هو الّلا اسم لا ينسب لمكان واضح او لسلالة وعشيرة، هو الفاقد للسكينة, الباحث عن شيء يراه ولا يراه, الخارج من صدمة، يشبه الحالة او القشعريرة، لا يزال يعيش منذ النكبة في مرحلة الدهشة .
الدهيشي يريد الحياة ويريد الموت معا, ويكاد ان يكون هو كل الشقاوة والبلاهة والنباهة والتمرد، تجده معك في الليل والنهار كظلك في الطريق، او كحلم غامض يشبه الكابوس .
لا تستطيع ان تتحرر من الحالة الدهيشية اذا عشت في المخيم, تصاب بها فتسكنك وتسكنها، وإذا ما حاولت ان تتخلص منها فتعيش في غربة مدهشة، تعود اليها تطلب الجنون او العافية .
الدهيشي هو المنفي فقي داخله وفي خارجه، وما بينهما باب ومفتاح وقلب يتنفس بعد الاختناق، الدهيشي يتنفس برئة واحدة.
الدهيشي يطفح بالحنين فيأخذك معه حتى يغرق نفسه ويغرقك .
الدهيشي ليس له وقت، لا يحب الانتظار ولكنه ينتظر، وان تقدم تراه يتقدم الى انفجار، سريع الغضب ولكنك تصبح شريكا في هدوئه الذي يسبق العاصفة .
الدهيشي تجده في لوحة وألوان غير متناسقة، وفي قصيدة حب تؤسس لجمهورية الجمال والثورة والحرية.
الدهيشي تراه في الماضي وفي الحاضر, يقودك الى المستقبل, يعود بك الى الوراء, يفكك الازمان الملغومة، هو في كل الحالات كأنه الثابت والمتحول والنبوءة .
الدهيشي هو الذي زاره قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عام 2000, فمشى في ازقة المخيم واكتشف ان دم المسيح لا يزال على ارض المخيم تحت خيمة الصليب، وان الدهيشي على صورة المسيح يخوض معركة الخلاص.
الدهيشي هو اللجوء والملجأ والكلمة، اختبأ في جسده المطلوبون والفدائيون والموسيقيون والفنانون والكتاب السياسيون، لقد اقتنعوا ان الحياة خارج المخيم ناقصة، ولولا الدهيشي لانطفأ ضوء الافكار والمخيلة.
الدهيشي هو المرأة ساعة المخاض والميلاد والمطر، وهو الرجل الذي يخرج من سريرها متكاملا كالفصول الاربعة .
الدهيشي هو المشوه الذي يبحث عن جمال صورته الأولى، يرفض التجميل الجراحي والتطبيعي, ويرى أن الجمال سيادة .
الدهيشي ليس اسم جامعة او كلية او منهجا دراسيا او حزبا سياسيا, انه يشبه الكثافة في المصير او الذاكرة في يد البطش او المصادفة.
الدهيشي هو الذي زارته ام سعد بعد ان خرجت من رواية غسان كنفاني، دخلت الخيمة ومزقت كرت الاعاشة, اعطته مفتاحا وبندقية.
الدهيشي هو الذي عاد الى قريته متسللا، ولما اكتشف جنود الاحتلال اختبأ في جوف شجرة زيتون، اعدموه هناك، وظلت جثته في قلب الشجرة عشا للحمام.

قرأت كتاب عيسى قراقع الجديد فوجدته يتحدث عني ويفضح أسرارنا الصغيرة