الإثنين: 20/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

أخلاق مغشوشة!

نشر بتاريخ: 23/03/2022 ( آخر تحديث: 23/03/2022 الساعة: 09:49 )
أخلاق مغشوشة!



بقلم: د. صبري صيدم

في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وقبل اشتداد عود الإنترنت ومحركات البحث عالمياً، قدم البرنامج البريطاني الساخر «نسخة طبق الأصل» مشهداً لمواطنين يحملان معولين يحفران ما بدا وكأنه حفرة عميقة أمام لوحة كبيرة، حملت اسم البلد الوليد آنذاك البوسنة والهرسك، الذي عاد ليرى النور بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي، ليلتفت أحدهم إلى الآخر ويقول: دعنا نستمر في الحفر علنا نجد بئر بترول ليهتم العالم بنا!

لم يمر هذا المشهد مرور الكرام، فقد عبّر الإعلام البريطاني في اليوم التالي عن ضيقه من هذا المشهد ورفضه للمنطق الذي قدمه، خاصة مع احتدام عمليات القتل في كل أنحاء يوغسلافيا السابقة، وتحديداً في البوسنة وكرواتيا آنذاك، ومع ارتفاع الأصوات المناهضة للذبح، الذي قادته بكثافة الميليشيات الصربية في زاغرب وموستار وسراييفو، وصولاً إلى المذبحة الأكثر بشاعة في سيبرنيتسا البوسنية عام 1995.

ولعل رياح التغيير التي كانت تعصف في بريطانيا آنذاك، مع محاولة نجم السياسة الصاعد في تلك الحقبة توني بلير الوصول إلى السلطة، خلفاً لرئيس الوزراء عن حزب المحافظين جون ميجر، قد ساهمت في تعزيز الرفض الشعبي لاستمرار النهج الإمبريالي السائد في بريطانيا، وغيرها من دول الاستعمار السابقة.

المحتجون اتهموا المشهد بالمغالاة، مؤكدين أن الحس الآدمي أكبر من حقول النفط، وأن دم البشر أغلى وأثمن من كل ثروات العالم، خاصة بعد ما حل في العراق من مصيبة عام 1991 ونكبة رواندا عام 1994 ومقتل ما لا يقل عن مليون شخص، بفعل الخلاف العرقي وتقاعس قوات الدول الغربية المتمركزة في روندا آنذاك عن حماية المدنيين من قبائل التوتسي والهوتو المتناحرتين.

أخلاق العالم المتباكي على حروب ومذابح التسعينيات، وعلى المشهد المذكور لم تدم طويلاً، خاصة مع كارثة العراق عام 2003 وانفجار ما سمي بالربيع العربي عام 2011، ليعيد العالم تغيير أولوياته المتدحرجة وأخلاقه الغضة ومبادئه الوليدة، ولنعيش عقوداً من النكبات تجاوزت في بعدها القيمي والإنساني المشهد التلفزيوني المذكور وما صاحبه من جدال.

اليوم ومع الحرب المشتعلة في شرق أوروبا وجحود العالم ونكرانه، يعود الفلسطيني ليفكر ملياً فيما إذا ما كان عليه أن يعيد تكرار المشهد ذاته ويحفر بئراً للبترول ليهتم به العالم فيحقق آماله ويصغي لرغباته ويوقف ازدواجية المعايير وبشاعتها.

فمع الأزمة الأخلاقية الكبيرة التي صنعتها الحرب تجذرت حالة النكران المستفحل، فلجوء الفلسطيني وترحيله وتهجيره وقتله وأسره واحتلال أرضه شيء، ولجوء غيره وترحيله وتقتيله شيء آخر، إذ لا تطابق في لون الجلد ولا الشعر ولا العينين، من حيث الظاهر لكن فعلياً لا تطابق من حيث المصالح والمنافع والمغانم من حيث الباطن.

معركة غيرت من ديناميكيات القيم والأولويات، ليكتشفها البعض فيبدل موقفه من حال إلى حال. فلا البوسنة بقيت على حالها، ولا رواندا استمرت في مواقفها، ولا توني بلير «طفل التغيير الحالم» وأمل البريطانيين ذات يوم، بقي على ما جاء به للسلطة. حرب المصالح أعتى من مبادئ البشر قاطبة، فجميعهم حفروا آبارهم على طريقتهم، وعلى الشاطر أن يفهم.

وأمام هذا الحل والأخلاق المغشوشة فإن الفلسطيني المكلوم يراقب المشهد بحرقة وحسرة: قرارات أممية تنفذ خلال أيام، وقرارات أممية تعطل لعقود، شعوب ترفض ما يقع على فلسطين وأهلها بينما قياداتها تتساوق مع الاحتلال، عرب الممانعة أصبحوا عرب المراجعة، فراجعوا مواقفهم وتراكضوا إلى التطبيع. خطوط طيران جديدة ومكاتب دبلوماسية مشتركة وصفقات تجارية مجزية، كله يحدث أمام ناظري الشعب الفلسطيني في خضم احتدام الأسئلة المستنكرة على اختلافها، حتى سنغافورة الوديعة التي لطالما حدثنا عنها أبو عمار، أعلنت عن نيتها فتح سفارة لها لدى الاحتلال!

نفاق وتزلف وانهيار قيمي بات سيد المشهد، بينما تستفحل ازدواجية المعايير وكأن لا قيمة لصيحات ملايين البشر حول العالم. «يا وحدنا» بات اليوم شعار الفلسطيني في مواجهة المواقف الرسمية المخجلة، لكنه وبمقابل الدعم الشعبي العالمي المتصاعد بات الشعار «يا كلنا» والذي لا بد وأن يقود إلى تغيير ملموس مع تصاعده وتزايده وتطوره.

حرب الموت في عالم المصالح ليست كحرب الحياة في عالم الإرادة، فالفرق واضح بين من يحفر بئراً للبترول المأجور ومن يحفر نفقاً للنصر المأمول… فالأخلاق أخلاق…لا تغش ولا تنسخ ولا يطبع منها ما يطابق الأصل، فإما أن تكون البشرية أو لا تكون… ننتظر ونرى!