الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

مع نجيب محفوظ جاري الأكثر جمالا!

نشر بتاريخ: 24/09/2022 ( آخر تحديث: 24/09/2022 الساعة: 20:22 )
مع نجيب محفوظ جاري الأكثر جمالا!


الكاتب: تحسين يقين
ربما هو فصل في السيرة الذاتية، بقليل من التخيل!
كان ذلك في صيف عام 1989، بعد عام على فوزه بجائزة نوبل..
قادتنا أقدامنا لننتقل من مدينة الأعلام التي لبثنا فيها أسبوعا في العجوزة إلى شارع دسوق في الحي نفسه، ليبدأ اكتشافنا للقاهرة بعد طول دراسة إذ التحقنا متأخرين في كلية الآداب. وما إن أصبح لدينا الوقت الكافي حتى رحنا بتشوق لنروي عطشنا الثقافي، لنرتاد المكتبات والمسارح ودور السينما، والتي منها مان له قاعة صيفية خارجية كسينما سفنكس (هل ما زالت؟). كان شارع دسوق متفرع عن شارع النيل، وكنا نحب التسكع على كورنيش العجوزة. وكنا نتناول وجبة "المكرونة بالبشمل" من كافتيريا نعمة، (التي عدت إليها في زيارتي لمصر). وهناك كانت بعض بداية، لنهايات لم تنته، حيث قرأت اسمه على الشارع المتفرع من شارع النيل. سررت وشعرت أنني في مصر فعلا. ترددنا على "نعمة"، وفي تلك الأيام كنت أقرأ زاوية قصيرة في جريدة الأهرام بعنوان "وجهة نظر"، في مواضيع متنوعة، وكنت أعجب كيف أن الروائي الكبير يكتب هذه النصوص القصيرة. قرأت له تقريبا كل كتاباته على مدار 4 سنوات، وعلمت أنه توقف عن كتابتها بعد الاعتداء الأليم 1994.
- كنت تجلس هناك، على مدخل أوتيل شهرزاد، هل كان اسمه كذلك؟ قريبا من شقتك في العمارة القريبة من كافتيريا نعمة..، في شارع...سابقا، الذي سمي باسمك بعد أن فزت بجائزة نوبل.
- ................................
- كنت تجلس صامتا مطرقا باتجاه نهر النيل، ربما لم تكن تظهر ماؤه، حيث كان يفصلنا عن كورنيش النهر شارع النيل.
- .............................
- لم تكن تفعل شيئا، فقط تتأمل بنظارتك السوداء، وقميصك المغلق عند رقبتك، فقط كنت تبتسم لمن يحييك.
- وأنتم ثلاثتكم أو أربعتكم، كنتم تجلسون بكل حيويتكم، وصخبكم، لكنني كنت ألاحظ كيف كنت تسترق النظر تجاهي، كنت أول العشرينيات وأنا على أبواب الثمانينيات. كنت أقرأ مونولوجا داخل نفسك يا فتى، ذلك أن أصحابك كانوا بي زاهدين، فقد انتبهت حين أشرت تجاهي بعينيك، كنت تخبرهم أليس كذلك؟
- ............................
- هم شباب صغار...
- كلنا كنا قرأنا صفحات من روايتك "زقاق المدق" في مادة النقد الأدبي، فالمفروض أنهم يعرفونك.
- لا عليك..وأنت ماذا قرأت لي؟
- "بداية ونهاية"، وفيما بعد شاهدتها فيلما سينمائيا.
بداية؟ ونهاية!
كان نهارا بعد العصر، قبيل المغرب، حين تخف الإضاءة.
كم كان عمري؟ لكن أتذكر أنني قرأت رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، حين كنت في الثانوية "التوجيهي"، حيث كانت الرغبة تلح عليّ بالرغم من أهمية الانتباه أكثر لكتب المدرسة. لذلك فالظن أنني كنت ابن 16 عاما. أي الصف الذي يسمونه اليوم بالعاشر. عادة، فإني أموضع نفسي في والذكريات الى الصفوف لا إلى الأعوام، كذلك في سنوات الدراسة الجامعية.
كانت الأسرة في بيت العائلة الكبير، حول كانون النار، وكان يزورنا مدير المدرسة الابتدائية الأستاذ رفيق رحمه الله، ربما للقاء أخي الكبير دكتور منصور الطبيب في القدس في تلك الأيام. والدكتور منصور هو أول خريجي العائلة من مصر (فيما بعد كان معظم خريجي الأسرة والأبناء من مصر) وكانت لدراسته هناك أثر علينا جميعا، وعليّ بشكل خاص، حيث كانت رسائلي له وأنا طفل محاولات كتابة أدبية.
شعرت أن مصر بلد يزورها الناس، ومنهم أخي، لذلك يمكنني فعلا أن أكون أحد زوارها يوما، بل وأن أرى العالم الذي نراه في التلفزيون، وفي الرواية التي بين يدي "بداية ونهاية"، التي لم يمنعني الضوء القليل من مواصلة قراءتها. هل كنت ابن 15 أو ابن 16 عاما!
صعب أن أنسى "بداية ونهاية"، التي جذبتني لكل ما فيها من بشر وعلاقات وأماكن ومشاعر!
وبالطبع، يختلف هذا النص الصادق والحقيقي عما نقرأه من نصوص مدرسية. وهكذا وجدتني أعايش شخوص الرواية، بالرغم من ميلي في هكذا عمر، للحب، إلا أنني تضامنت جدا مع الأخت التي آل مصيرها الى مأساة ظلت بالنسبة لي حاضرة حتى اليوم وغدا.
ما زلت متذكرا عبارة الفتى الذي صار ضابطا فيما بعد، حين مرّ قرب إحدة الفلل ورأى شابة جميلة متمددة في فضاء المكان، فقال:
"ما أجمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه الفتاة"!
حين قرأت العبارة تلفتت حولي، خفت أن يضبطني أحد..
- ربما هذا هو اللقاء الأول معك أستاذ نجيب!
- .....................
- يبدو أنك سرحت؟
- ................
- كنت تدخل السبعين بكامل تألقك.
- ...........................
- تحولت الرواية إلى فيلم، لكن لم أشاهده الا بعد سنوات، من بطولة فريد شوقي وسناء جميل. لقد أعادني الفيلم الى الرواية، إلى ذلك الفتى الذي كنته وأخر ذلك النهار الشتائيّ.
زقاق المدق..الرواية والزقاق الحقيقي..
الزقاق الذي نعرفه هو زقاق الأرض أو بين البيوت. قرأنا صفحات من رواية "زقاق المدق"، التي وردت في كتاب النقد، الذي لم يكن الطلبة يفهمونه، فقط كانوا يحفظونه. أدخلتنا أستاذ الى الحارة المصرية.
- كيف كانت؟
- حلوة قوي! وتمنيت أن أقرا الرواية كلها. لم أقرأ الرواية إلا متاخرا، حين وجدتها ملقاة في أحد البيوت، وكم دهشت لزهد أصحاب البيت بها. شاهدتها فيلما، وعلمت من سنوات أن فيلما من دول أمريكا الجنوبية قد اقتبسها، وهو من تمثيل الفنانة المعرفة سلمى الحايك اللبنانية الأصل.
- .................
- في صيف عام 1989، كنت في منطقة سيدنا الحسين، فإذا بيافطة مكتوب عليها "زقاق المدق"، فظننت أنهم أطلقوا الاسم تأثرا بروايتك. ابتسم بائع المقتتيات من السؤال: " لا يا افندم ده اسم الرواية جي من هنا، ده هو زقاق المدق". إذن كان هناك في الرواية ناس من هنا؟
- ثم؟
- ثم ها أنذا اليوم هنا أقرأ "حديث الصباح والمساء" و"أمام العرش".
- ................
- حينما عملت محررا ثقافيا كنت لا أجد أي خبر عنك إلا وأعدت نشره، كنت أتابع يومياتك في المقاهي الثقافية متمنيا لو يتاح لي فرصة الوجود.
- ماذا قرأت؟
- قرأت لك أصداء "السيرة الذاتية"، وهو نص أدبي رفيع..أدبيا ووجوديا.
- .............
- مر 16 صيفا مرّ يا أستاذ نجيب.
- بجد؟ ده بزمنكم وحساباتكم..طيب والناس فاكريني؟
- أمّال إيه، ده انت أكثر خلودا!
- طيب وانت؟ انا أعرف انك كنت ميال لكتب توفيق الحكيم وطه حسن وقراتها كلها..
- مزبوط مقدرش اخفي الحكاية دي، بس لما كبرت رجعت تاني ليك، حسيت أن رواياتك عن الحارة هي روايات عن الدنيا كلها، وعن الإنسان في كل مكان!
- وخلال تلك الأيام، كنت إذا شاهدت فيلما من رواياتك، أجلس للمشاهدة، كمن يقرأ وليس كمن يشاهد فقط. دوما كنت أعظّم رواياتك. حدثت أو ممكنة، لكل منها رسالة ومستخلص. ودوما كنت أتذكر ذلك الفتى في ذلك النهار الشتائي..
- طيب رجعت الى أي رواية!
- اولاد حارتنا..
- اشمعنى دي يعني!
- ما انت عارف قصة الرواية دي وازاي انمنعت، وطبعا بحثت عنها في مصر طوال سنوات الدراسة، ما لقيتها، عرفت انها صدرت بلبنان، لكن مرة وأنا أتمشى قرب دار الأوبرا لقيت حد ببيع كتب، وع طول التقطتها.
- بس حسب معلوماتي أنت ما كتبت عنها..
- حكتب..بس لما قرأتها استغربت منعها.
- ...............................
- عدت لك.. لم أنته كما ترى. شاهدت واستمتعت وفكّرت، بكيت وابتسمت. ثم رحت أستدعي الأفلام المأخوذة من رواياتك: القاهرة 30، واللص والكلاب. ميرامار.. ثرثرة على النيل، الثلاثية، الكرنك..
- بس انت ما كتبت عن كل دول!
- حكتب..
- عايز تقول حاجة قبل ما أروح؟
- حبيت قوي مجموعتك القصصية صباح الورد، كانت جديدة عندما زرت مصر للدراسة، عجبني قوي ازاي كنت حضرتك بتوصف الأسر، وتنقلها بين الأحياء القديمة والجديدة، والتحولات التي طرأت عليها، كنت بشوف سيدي الناس حولي، واكتشفت انه هذا هو وهذا نحن. فصرت لما أشوف الناس أتذكر بدايات تعرفي بهم، طبعا ده لكا كنت أول العشرينات، شو بقى دلوقت!
- الدنيا صغيرة يا قارئي..
- سلاما قارئ الدنيا.
- سنلتقي دائما..بفرح قوي لما حد يكتب عن قصصي..
- هي قصصنا أيضا.
- ............
- في المرة القادمة، سأسير في شارع نجيب محفوظ، وقد أتشجع وأزور البيت؟
- أهلا بكم
- .................
- سيصلنا المقال لا تقلق.
[email protected]