الجمعة: 04/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزّة؛ رَهبةُ الأزمة وفضيحةُ المشهد

نشر بتاريخ: 26/08/2024 ( آخر تحديث: 26/08/2024 الساعة: 20:35 )
غزّة؛ رَهبةُ الأزمة وفضيحةُ المشهد

الكاتب: المتوكل طه
*

جرحٌ رعّاف،لن يندمل إلا إذا اتّسع ولسعته النار،لأن الأفاعي ترتوي من ذاك الجرح المجّاني،فلماذا الفزع من انسكاب الشريان؟إنها الكُلفة واجبة الوجود،عاجلاً أو آجلاً،وإلا سيفنى الجسد كلّه.
ومَن لا دم في وجهه..ينزف كثيرا.
*
والعَالَمُ لن يحتمل الذابحَ والمحرقةَ ومَن أوقدوها،سيلفظهم.وأخشى أن نقوم بإنقاذ القاتل،بترضيةٍ سياسيةٍ تافهة،نغسل على أثرها يديه من دمنا!
ربما يُنقذ القاتلُ بعضَنا،بفتاتٍ مُغثٍ كريه،وينقذه هذا البعضُ الخائبُ بمصافحةٍ أخرى.ثم يقول القاتلُ المتبجّحُ للدنيا:انظروا؛لقد سامحني صاحبُ الشأن ووليّ الدم،وسيقهقه..حتى يتبقّع فَمهُ بفقاعات دمنا الحرام.
*
وهل انزلقنا إلى التعوّد؟نعم.وأصبحت الصورُ الداميةُ لا تبعث القشعريرةَ والغضب،وربما ذهبنا إلى فضائية أخرى لا تعرض الجثث التي تمزّعت أو ساحت مع الخيام البلاستيكية،وقد نكمل زينتنا ونذهب إلى عُرْسٍ ونرقص!
والأبلى أننا نضع المقاتل تحت مجهر النقد ونحاكمه ونرفعه إلى المقصلة ونجلد ظَهره العاري،ونكون تحت المُكيّف ندخّن ونأكل التين المشطّب ونشرب الاسبرسّو !بل ونواصل حزّ لحم ذاك الذي يقف مع غزّة ويموت من أجلها،ونتّهمه بالخروج عن نصوص الأئمّة..ونحن في بيت قريش.
لقد تهرّأنا،وانهزم بعضنا،وباع أخٌ لنا لحافَه الصخريّ،لتبرق البنايات الطازجة على القمم،ووربما يهتف في وجهنا بأننا نزلنا عن الجبل!فيما يلوّح سيّافُ العسس بالنّصل والنّطع،لمن أراد للقبيلة أن تجتمع في بيت واحد.
إننا مأزومون إلى حدّ الفجيعة:لقد فقدنا الثقة ببعضنا وبأنفسنا وبحضارتنا وبمستقبلنا.
إننا نهين رموزَنا ونحقّرها،ولا نستطيع إنتاج رموز جديدة.ونرتدُّ إلى ذاتنا لنمزّقها.
ونذهب إلى اللغة النهائية،بمعنى نُؤَلِّه أنفسَنا ونُشيطِن خصومَنا الوطنيين،ونفقد القدرة على الحوار والاستماع.ونذهب للانتماء إلى الدوائر الضيّقة،أي الطائفة أو الجغرافيا أو الفصيل السياسي.وغالباً ما يقلّد المهزومون أعداءهم،ويتشبّهون بنقيضهم.وتتناسخ عن الانهيار السياسي انهيارات أخلاقية وقيميّة.وتتعالى أصوات الإحباط ونداءات الاستغاثة والتخبّط،ويبدو وكأنَّ الانتماء إلى الخلاص أو الوطن ضربٌ من العبث والحمق،وتزداد مفردات اليأس والقنوط،ويظهر وكأنَّ الأمل قد مات!ونذهب إلى الخَلاص الشخصي بدلَ الخَلاص العام.لكنها أزمة أو هزيمة نسبيّة أو مجازيّة ومرحليّة بالضرورة.
*
إن بعض القصص تحتاج إلى بعض التجميل،لكن قصتنا دماءٌ فحسب،حيث جاءت هذه الكائنات الشريرة إلى سواحلنا،وقد سيطرت معها القوى الحالكة،بتحالفها المسعور،على أرضنا،وكان لا بد من النور والنار لطردها.
إنها واضحة،ليست أحجية،إنه ظلام يعبّر عن عتمته بقوة،جاء إلى بلادنا ليحرقها برماد خرافاته،ولا بد لنا من إشعال النار المقدسة،والله وحده،عزّ وجلّ، يلهمنا الشجاعة.
إنهم لا ينتمون إلى أي أرض!إنهم أروح ملعونة،ليس لها أغنيات ومراجيح وأزياء،بل فواحش ومطارق وسواطير،تفوح منهم رائحة الخوف والدم،ويكرهون الفراشات والطيور.والدم الملعون لا يتخثّر.
لكننا سنبقى على الجبل وفي الساحل وعلى التلّ وفي البراري،ندفع زكاة وجودنا في أرض الرباط.
سنحرس بياراتنا التي يحيط بها الظلام،إنه ظلّ رعب قديم،يستدعي أرواح الموتى ويستحضر الجثث المقيتة،إنهم ليسوا من عالم الأحياء،بل من الخرافات جاءوا..
ثمة شيء طليق اليد،يحرق القرى ويغير على المزارع،وإن غضضنا عنه الطرف فإنه لن يتركنا..في كل الأحوال.
وسنبقى متمسّكين بالجسارة الحقيقية التي تكمن في منح الحياة وليس في استلابها.
*
ولغزّة إسْراؤها بأمرِ العليّ الجبّار.وللثكالى،أُمهاتِ الصغار المفجوعين بالفَقْد،معراجُهن في البياض الحصين،لترى كلُّ ثاكلٍ رجالَها،يومَ عيدٍ قريبٍ،يترون الواحد خلف الآخر،يقبّلون الزّغب والكفّ،وتنهمر دمعة الثلج التي كانت،قبل قليل،كاوية.
*
وثمّة أُغنيةٌ،من آخر ما تشير إليه الخرائط المُلفّقة،تقول:الفجر الممزوج بالليل ليس هو الفجر الذي ننتظره!بل علينا أن ننطلق إلى الوجهة النهائية للنجوم السائحة في براري السماء اللاهبة،فهناك ستصل الأمواجُ،التي أنهكها الليلُ،إلى شاطئها.
لقد سجّل اللحظة الرجراجة والخذلان ومنظر المدينة المعفّرة،والنازحين للمرّة العاشرة،وكتب بغضبٍ عن موت الصغيرات وظمأ الحسين والجوع المدوّي،واتهموه بالفجاجة والتخلّف،وكان نزِقاً وحادّاً مثل زجاج مكسور،وترك أُسرَته وغرق في الوهج الصافي،لكنّ صورة تمزيق الرضيع وانزلاق السكّين وتقطيع ثياب النوم بين الإخوة ورعب الآثام..كل ذلك لم يجعله ينظر إلى الوراء أو يخشى الاغتيال،ولم يغطس في بحر الدم،ولم يثقله الندم الحارق،بل بعث الطوفانَ،وواجه سيولَ الزبد الحارق،وعاد لنا بلآلئ تتلامع مثل شمسٍ صغيرةٍ بين يديه.إنه يشبه "مانتو" الصوفيّ المسكين،الذي لم يذكره أحدٌ من زملائه الكفرة.
*
كانت الوردةُ بيضاءَ،والسماءُ سحابةَ ثوبِ عروسٍ،عندما امتدّت يد زيوس لتوثق بروميثيوس بالصخرة الصماء،ويأتي الطيرُ الجارح،آكل الكبد الحرّ،ليقضي على معظمه.
وكانت الصحراء صحراء،والحرب بلاء وشظايا،عندما مضغت هند كبدَ حمزة سيّد شهداء الحقّ والنّور..وعندما هرست دبابةُ الجنزير لحمَ رضيع في الطريق كانت الدماء دماء والسماء غائبة عن السماء..ومن لحظتها وقلب الأرض يستعر كالجمر، ويلوب من أوجاع الكراهية في الإنسان،ومن خراب نظرته لكثافة النوع البشري.
*
أيتها الأشجار الممتدة في صدري!انطلقي،واخترقي كبد الشمس.واهزمي الظلام في آدم.واخلقي هرقلاً جديداً يحرر بروميثيوس،وابعثي دعوة الإيمان لهند،وأعيدي الإنسان للمشوّهين القتلة،لعلّهم يتوبون كما تابت المجدلية.
ويا أيتها الرجولة الفارعة كالأبنوس،توالدي على الطرقات كالأشجار الشاهدة على الحياة،لتسير فلذات أكبادنا نحو بيادر الفرح عند الفجر.وعلّميهم كيف يكسرون الوحوش الضارية ليخرجوا الطير من بين أنيابها الكريهة.لتنطلق أغانينا،حافية كالأنهار،وعامرة كالخوابي والمشاوير والصلاة.
ويا أبانا الذي خرج من الجنّة وحطّ على الأرض،عليك أن تخلق جنّتك الوارفة الخلّابة هناك..بعيداً في القلب،لتعود علاقتك الموسمية ممتلئة بالحكايا.ولا ذنب على الأرض إلا ذنبك،ولا ذنب لشارلفيل إذا أنجبت رامبو،ما دامت عدن هي البديل الأخرس لنشيد رامبو المنتحر،من فرط الوعي والتهريب والحنين.
*
ربّما ألوك حروف الأوائل لأهرب من سؤال حفيدي القادم،ولهذا أحاول أن أستر وجهي برغوة الكلمات والردّ المفتوح على الأسئلة الصعبة المشروعة،التي تناساها علماء النْفس الاجتماعي،والمثقفون العرب الذين لاقوا الرواء(!) في منافيهم الاختيارية خلف البحار.فأسئلة الصغار هي سيوف المعتزلة والكهلة،وأساس مفاهيم المناطقة والرواقيين والجوهر والعرض..ولكن رداءة الزمن العربي الآنية قلبت عواميد الفكر والثقافة والتراث.فكبرنا وفينا رهبة السؤال وفضيحة الجواب،ورفعنا وسائل الدفاع الآلي والتبرير،ومقولات الدِّين المُلتَبسة..فأصبحنا بلا حدود أو هدوء أو بلاد!
*
ولعلّي،مرّة اخرى،أهرب من سؤال الطفل في روحي،أو لعلّي وصلت الى قناعة أكيدة بأن"كولّاج"الحياة ليست إلاّ ترتيباً طبيعياً للأمور..ولكنني لم أختر درب "رامبو" الصامت العابث،فحاولت حفر القواميس كمقدمة لحفر القبر أو القصر أو البحث عن كنز لن أجده!
وما هذه الُهلامية الرّخوة أيّها الكبير،كدمعة الرجال!هل وصلنا إلى الغموض الكامل أم الوضوح الكاسح؟أم أن تعب القلب جعل الأمور تتداخل وتنصهر في بوتقة الرماد؟وما أهمية هذا السؤال أو كلّ الأسئلة ما دام الربع الخالي خالياً إلآ من الرمل والضباع ورعاة الغنم المقهورين؟وأن نينوى مدينة قابلة لتجديد الموسيقى، ولاستيعاب أعراس الجنون؟
وما قيمة اللغة إذا لم تضمن لك المذبحة أو الزلزلة أو النسيان الُمطْلق للشهوات؟وماذا تنفع الغابات والأنهار إذا لم تطلق أعنتّها للغزالة،وتشهد الرفيف الأخضر ساعة الضحى؟
الصمتُ كلامٌ مكتوم.
لا عليك ولا علّي،ولا على الآباء الآخرين،فكّلنا يتسلّى في حُلْمه وصحوته بطريقته الخاصة،وقد ندرك جميعنا الرُعب الكامن في حفنة من تراب أو ثقل صلصال الحنين في الضلوع،وكُلّنا يحاول ترتيب الدوائر التي حوله،بطريقة تضمن له الضوء والخبز.ولكن جميعنا ينسى أنها دوائر من ماء.وأنّ حجراً صغيراً تلقيه طفلة ذات ضفائر،في غاية البراءة والجَمال،يستطيع أن يحرّك بحر الدوائر في الأرض والرأس وما بينهما.
*
وفي مكانٍ ما سترسو مركبتنا المُثقلة بالأحزان في مرفأ آمِن،على رغم أن حرّية المُقاتل مثل حرية طائرٍ مكسور الجناحين،ويقول بيأس،أحياناً:أنا لستُ أغنية أو لحناً،أنا صوت الهزيمة..وسرعان ما يصير لحنَ النصر الهادر،فعلاً!