بقلم: د. صبري صيدم
يشكل الواقع السياسي الصعب الذي يعيشه العالم العربي اليوم مصدر قلق لأمتنا العربية، ليس فقط لمن يعيشون في قلب الحدث، وإنما أولئك الذين يتمترسون خلف شاشات التلفزيون في منازلهم المتخمة بالأسئلة والاستفسارات حول ما ينتظر العرب من مستقبل آت.
لكن خوفاً آخر يقض مضاجع الأهل، خاصة أمام التسارع الرهيب لتطور وسائل التقانة على تعددها بدءاً من وسائل الإعلام الاجتماعي، ومروراً بمنصاته المختلفة، ووصولاً إلى الازدهار الصاروخي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، كل هذا أمام تطور فلكي لما يعرف بالحوسبة السحبية، والبيانات الضخمة والنشاط السيبراني على تعدده وغيرها الكثير. وأمام هذا التسارع الجارف يأتيك من يحاول إقناع البشرية بأن عليها التجرد من هذا التقدم الماراثوني، والعودة إلى البدايات عبر استعادة ألق الورقة والقلم والرياضيات التقليدية، والكتابة اليدوية، والحفظ الآني للبيانات وغيرها من سمات العقود السابقة. وبين الداعين لهذا النهج وسيل المنظرين لعصر السرعة، يقف جمهور الأهل من المغرب إلى اليمن وما بينهما، ومعهم كل سكان الأرض حائرين، خائفين، متوجسين ومتسائلين: أين نذهب؟
إليكم الإجابة بمنظوري المتواضع:
أريحوا أنفسكم من المحاضرات البرّاقة والمتحدثين الحصيفين، والذين يسدون النصائح المغلفة بقالب يبدو وكأنه منطقي وموزون، إذ يكفي أن تقفوا في الشارع العام في عواصمنا المختلفة، وتنظروا إلى عشرة من الواقفين فيه، راقبوا كم من العشرة منشغل بهاتفه المحمول، ستجدون أن غالبيتهم لا يحتملون مرور وقت طويل بعيدين عن هواتفهم. الجواب واضح والأمر محسوم، فقطار التكنولوجيا، غادر المحطة ولا مجال للعودة إلى الوراء.
لا يمكن أيضاً لمحاولات التقليل من أثر كل شيء جديد وتخويف المجتمع منه بأن تقلع بعد اليوم.
هكذا تخوفات عاصرت انتشار الراديو والتليكس والفاكس والتلفزيون، بل لجأ البعض في الأمس القريب، ومع ازدهار تكنولوجيات كهذه كانت مكلفة، إلى فرز المجتمعات طبقياً على أرضية، أن القادر على امتلاك التكنولوجيا، إنما هو صاحب حظوة مالية متقدمة.
اليوم باتت التكنولوجيا متاحة للجميع، واليوم بات الأبناء مدمنين عليها، بل الأسرة بأكملها مدمنة عليها، وكذلك الشارع برمته. لتستحوذ التكنولوجيا على كامل تفاصيل الحياة كونها أصبحت جزءا أصيلاً منها.
لذلك لا إمكانية لتجاوز عصر السرعة إطلاقاً، حتى إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومع فرضها لعقوباتها الضريبية الأخيرة على الصين، ما لبثت أن تراجعت عنها على مستوى الإلكترونيات، خاصة عندما استفاقت أمريكا على ارتفاع سعر هاتف الآيفون المصنع في الصين والأوسع انتشاراً عالمياً بواقع ثلاثة أضعاف، ما دفعها صاغرة لإعادة النظر في ضرائبها تجاه الصين، ليضاف لاستثناءاتها لهاتف الآيفون المحمول، كل ما ارتبط بعالم التكنولوجيا، كالمعالجات والطباعة الدقيقة وثلاثية الأبعاد، والمعادن الثمينة المستخدمة في التصنيع التقني، والقائمة تطول. هذا الحال أكد ضراوة الأمر أمام التوسع الرقمي، وسطوة التكنولوجيا، وقدرة الصين المتفوقة في هذا المضمار، على تركيع العم سام أمام التنين الصيني.
لهذا فإن محاولات التقزيم والتقليل من أهمية التكنولوجيا ودورها اليوم يأتي في إطار المحاولات اليائسة لإحباط ما أصبح بديهياً ومتغلغلاً في أنسجة مجتمعات العالم قاطبة. لقد عوضت أغلب دول العالم عن ضياع ساعات العمل في زمن كورونا مثلاً باستخدام تقنيات التحادث المرئي، ما ساهم في استمرار تدفق الحياة وتطور التقنيات المرتبطة بذلك.
وعليه يستطيع الكثيرون أن يقولوا إنه، لولا التكنولوجيا لما كانت هناك إمكانية لتستمر الحياة في زمن كورونا. فقد قامت الأمم المتحدة مثلاً بالاستعاضة عن 75% من اللقاءات الوجاهية التقليدية بتطبيقات التكنولوجيا على تعددها حتى إنها استمرت بذلك حتى تاريخه، بل إن فلسطين تحديداً كانت سبّاقة في استخدام التكنولوجيا عبر المجلس التشريعي الأول، منتصف تسعينيات القرن الماضي (أي مع أول انتشار للإنترنت وتطبيقات الاتصالات المرئي المباشر)، إذ تمكن المجلس المذكور من إقرار 101 قانون عبر تقنية «الفيديو كونفرنس» خاصة لصعوبة تنقل أعضائه بين الضفة الغربية وقطاع غزة آنذاك.
ولعل ما لا يعرفه الكثيرون أن توظيفا للتكنولوجيا كهذا، تم دون وجود تشريع يشرعن استخدامه، ومع ذلك وتحت وطأة الحاجة، لم يطعن أحد بهذا التوظيف، بل لولاه لما شهدنا ولادة المنظومة العدلية الفلسطينية الأولى، في عهد السلطة الفلسطينية ولما استطاع المجتمع أن يسير قدماً إلى الأمام.
واليوم وفي عالم الطب فإن عمليات الدماغ والقلب والتجميل والنظر وغيرها الكثير، لا يمكن أن تتم دونما اعتماد واسع على التكنولوجيا وبكامل تفصيلاتها. لذلك فإن العودة إلى الوراء عبر الاستغناء عن التقانة الحديثة، هو أشبه بانتزاع الناس من عصر السرعة والإلقاء بهم في عصر الرتابة والبطء والتقليد.
وبذلك فإن سؤالاً كبيراً يطرح اليوم أمام شارعنا العربي: أي ثقافة نتبنى؟ أي ثقافة هي تلك التي يريدها الأهل؟ الثقافة العربية المحافظة التقليدية؟ أم الثقافة الغربية بما لها وما عليها؟ أم ثقافة التمازج التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي على تعددها؟ الواضح أن معركة الثقافات باتت محتدمة، وهي وليدة الغياب الجلي لإنتاج المعرفة لدى العالم العربي، حيث يشير تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2003، إلى أن آخر إنتاج ملموس للمعرفة العربية، كان في عهد عبد الرحمن الكواكبي، أي قبل مئتي عام تقريباً. وهذا حتماً يوّلد مشكلة كبيرة في عالم يتسارع فيه ازدهار التكنولوجيا وتطورها، وهو ما يعني أن العالم العربي اليوم، إذا صح ما ورد في التقرير المذكور، متأخر عن الدول المتقدمة المنتجة للتكنولوجيا المتقدمة بواقع 200 عام.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تاريخ ولادة الإنترنت لاستخدام الجيش الأمريكي بحدود عام 1955 وإتاحتها للبشرية مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإن العالم العربي وغيره ممن لا ينتج التكنولوجيا اليوم، يقف متأخراً بواقع 40 سنة عن الدول المتقدمة تقنياً، ما يعني وجود فارق بواقع أربعة أجيال في ما هو متاح من تقانة عسكرية وغيرها أمام مجتمعاتنا، فارق يستعاض عنه بالشراء النهم لتلك التقانة لسد الفوارق بين العالم المنتج للتقانة وبقية العالم. أما البشرية فإنها تكاد تفقد القدرة على مواكبة التغيرات التكنولوجية، جراء تسارعها المهول.
لنأخذ مثلاً آخر صيحات السيارات الصينية التي تعمل في بيئة اعتيادية وبيئة برمائية، والتي تسير عبر استخدام محرك كهربائي يتم شحنه ذاتياً بالطاقة، مقابل سيارة تقليدية مكونة من محرك يعمل بالوقود التقليدي، ويمتلك تقنيات أقل تعقيداً وأقل رفاهية، ستجد أن المركبات التقليدية قريباً وقريباً جداً لا تستطيع أن تنافس أو تصمد من حيث الكفاءة والقدرة أمام هول التطور التقني لمنافساتها.
وعلينا أن لا ننسى أن التكنولوجيا وفي السياق التعليمي ساهمت في سد جزء من الفاقد التدريسي خلال وباء كورونا، مع الإقرار بعدم وجود النجاعة الكاملة في هذا المضمار جراء غياب الجاهزية، لدى بعض الدول، أو عدم الدراية بسبل التطبيق الأمثل، أو لغياب القرارات والسياسات الحكومية الداعمة. وما دمنا في إطار التعليم، وجب لفت الانتباه إلى أن العالم ربما يشهد اختفاءً كاملاً للمدارس والجامعات التقليدية، ليصبح التعليم ذاتياً، ولتقاس المعرفة الذاتية بمقاييس مختلفة تقيّم قدرة الفرد على الإنتاج وتوظيفه لمعرفته بسبل مختلفة ترتبط بالأثر والتأثير.
ولا نستغرب أبداً غياب الكتاب التقليدي باعتباره أشبه بحبة الدواء التي تصلح لكل مرض. وهو أمر لم يعد صالحاً أمام طوفان التقدم التقني. إذ لا يمكن اليوم أن تعلم الطلاب بعض المواد البعيدة عن اهتماماتهم، خاصة أن لكل واحد منهم شخصيته وفضوله والعالم الخاص به.
تعدد أنظمة التعليم اليوم وعلى اختلافها ما زالت تفضل التعليم المدمج، الذي يجمع بين التكنولوجيا والتقليد، وبناء عليه فإن غياب الكتاب التقليدي الورقي والمتعارف عليه بالكتاب «صفر» لن ير النور، بل سيبقى الكتاب متاحاً لسنوات مقبلة ليستمر بكونه مرجعية للقراءة، وربما يشكل لكثيرين فرصة لإراحة العين من الأجهزة الرقمية على اختلافها، والتمرين على اللغات القويمة، والكتابة بالخط التقليدي، وإنعاشاً للثقافة التي أتت بالكتاب ذاته.
أما اللغة العربية فنتيجة كون 67% من محتوى الإنترنت هو باللغة الإنكليزية، فإن حضورها والذي هو أقل من 1% على الإنترنت يتسبب بفارق كبير، ما يقود نحو سطوة اللغة الإنكليزية وتأثيرها على مجتمعاتنا اليوم عبر تداخل العربية بالإنكليزية ودأب شبابنا في العالم الافتراضي على المزج بين الأحرف العربية واللاتينية، ليوظفوا الأرقام للاستعاضة عن الأحرف الغائبة في اللغة الإنكليزية كالخاء والعين والحاء، ناهيك عن تكريس استخدام المصطلحات الإنكليزية المعرّبة في المحادثة اليومية، ليتعزز ما يسمى بالعربيزي الجامع بين اللغة العربية والإنكليزية وبات يسيطر على حواراتنا، وأجهض اللغة العربية السليمة وحتى الطرق الصحيحة لمسك القلم.
فنعم أحد ضحايا التطور التقني، يكمن في نقص المحتوى العربي، وسواد المحتوى الأجنبي وتردي حال اللغة العربية، ما دفعني قبل سنوات وفي اليوم العالمي للغة العربية لكتابة مقال بعنوان: انتحار التاء المربوطة. ومع ازدهار تقنية الذكاء الاصطناعي، فإن هناك أملا كبيرا يتمثل في توفر القدرة على إحياء التاريخ والجغرافيا واللغة والإرث والثقافة العربية برمتها، خاصة أن هناك نماذج مشجعة باتت تظهر عبر وسائل الإعلام الاجتماعي.
إن أي ظهور لتكنولوجيا جديدة ومع الأسف، تقابله ثقافة رافضة له ومقاومة لتمدده تماماً كما حصل مع ولادة التلفزيون والفاكس وغيرها.
ومع ذلك فإن الشطارة تكمن لا برفض الشيء وإنما في كيفية تسريع التعامل معه وتوظيفه لخدمة مجتمعاتنا في كل المجالات. فهل يتعلم العالم العربي الدرس؟ أم يستمر في لعن الظلام؟ ننتظر ونرى