بقلم: د. صبري صيدم
بينما كان العالم بأسره يحيي بالأمس ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يقر، ومن خلال مطبخه الوزاري حرباً متجددة ومن نوع آخر على قطاع غزة، وكأن القطاع المكلوم لا يكفيه ما عاشه من ويلات ومصائب وكوارث على مدار تسعة عشر شهراً، أمام صمت وتساوق عالم يدعي بعض أركانه الحرية والانتصار لحقوق الإنسان.
المتساوقون لا يفعلون ذلك عبر إدارة الظهر للإبادة المتواصلة بحق أبناء شعبنا فحسب، بل يصرون على استمرارهم في تزويد إسرائيل بالسلاح بكامل صنوفه وأنواعه وأوزانه، محاولين تبرير ذلك بحجج ومزاعم واهية.
حرب نتنياهو الجديدة تدفع المشهد نحو عملية خطيرة جدا، تفوق ببشاعتها تلك العمليات العسكرية التي جرت في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، ليس فقط من حيث الضراوة والفداحة فحسب، بل أيضاً من حيث الإعداد لها، ومن حيث ما رشح من تفاصيل عملياتية ستحرق ما تبقى من القطاع وأهله.
البعض المتفائل رأى أن إعلان الحرب هذا، هو بمثابة تكتيك يمارسه نتنياهو لتعظيم الضغط النفسي على المفاوضات الجارية حالياً، بينما رأى البعض الآخر أن إسرائيل جادة، وأن القرار اتخذ بما يشمل استدعاء الآلاف المؤلفة من جنود الاحتياط.
أما أن القرار قد اتخذ فعلاً فها هي البيانات الرافضة لحرب كهذه تصدر تباعاً من دول العالم، وقد طالعتنا وسائل الإعلام حتى كتابة هذه الكلمات، بعدد من تلك البيانات، ومن دول وازنة، لكن قيمة البيانات الدولية بالنسبة للفلسطينيين لم تعد تكمن في عباراتها وجملها ومفرداتها، ولا في تعابيرها الاستنكارية الرنانة، وإنما في قدرة أصحابها على امتلاك بعض المخالب للضغط على حكومة الاحتلال لوقف العدوان.
الأفضل من هذا كله أن تتوقف بعض تلك الدول، التي اعتادت أن ترفع عن كاهلها الحرج عبر تلك البيانات، وتقنع نفسها بأنها فعلت شيئاً ما لوقف الحرب، أن تتوقف عن مد إسرائيل بالسلاح وتنهي الواقع السريالي المنافق الذي ادعى من خلاله البعض حرصه على وقف القتل بينما لا ينقطع خط إمداده لجيش الاحتلال بصنوف العتاد على تنوعه.
الأمور حقيقة إنما ستخرج من نصابها، إذا ما ذهب نتنياهو نحو خطته الجديدة، بل ستقود نحو المزيد من الكوارث، ونحو مذبحة حتمية مقبلة ما لم يتدخل العالم ويلجم مغارم ومغانم نتنياهو الذاتية من حرب كهذه.
هذا الحديث لا يهدف إلى إخافة الناس إطلاقاً، وإنما للفت الانتباه إلى أن هذه العملية العسكرية ستكون بمثابة الكارثة، ما لم يستفيق العالم اليوم، بصورة تتزامن مع الضغط على دولة الاحتلال بوقف الحرب وإعلاء الصوت التحذيري الضاغط، والرافض لهذه العملية المجنونة والمصحوبة بالتوعد بتهجير الفلسطينيين بعد احتلال المزيد من الأرض.
لا يعقل مطلقاً ولا يفهم أبداً استعداد ترامب لزيارة المنطقة، متحدثاً عن الرخاء والاستقرار المزعومين، وعن المال والأعمال، بينما يتجهز للانقضاص على خزائن الدول العربية، في وقت تستعد فيه إسرائيل لمعركة متجددة في الشرق الأوسط بهذا الحجم وبهذا الشكل، رغم ادعاء البعض أن ترامب يريد للحرب أن تنتهي قبيل زيارته للخليج العربي خلال أيام.
فمجمل تصريحات قادة الاحتلال تتضمن نهجاً علنياً يفضي إلى نقل السكان وترحيلهم وتهجيرهم، واحتلال قطاع غزة والبقاء فيه وعدم الانسحاب من الأراضي التي سيحتلها الجيش، مهما كانت طبيعة الاتفاقيات المستقبلية والصفقات المقبلة حسب زعمه.
لذا فإن الأمور جد خطيرة وتأخذ منحنى متقدماً جدا تستوجب أن يشعر العالم بالخجل بعد أكثر من 18 شهراً من الإبادة المتواصلة. إبادة، يريد نتنياهو توسيعها ومضاعفتها وكأن شيئا لم يكن، وكأن كل الذين ارتقوا، وكل هذه النكبات، وكل هذا الدمار الشامل، لم يؤثر قيد انملة على رغبة العالم وقف مجريات الجريمة على الأرض، بل يعزز من استمرارها، ويصعد من نفسها، ويدخل منظومات سلاح جديدة، ويتحدث أكثر عن احتلال الأراضي وتنفيذ مشروع التهجير.
إن إصرار نتنياهو على ذلك المشروع وتنفيذ خططه الأخيرة، يجب أن يشكل فرصة لتغيير سياسة المراوحة التي مارسها العالم، مراوحة سفكت بموجبها دماء الأبرياء من نساء وأطفال في قطاع غزة والضفة الغربية، وهدمت كامل مقومات الحياة وانتحرت منظومة القيم الأخلاقية ومفاهيم حقوق الإنسان.
إن زيارة ترامب المرتقبة خلال أيام للعالم العربي، والقمة العربية التي ستتبعها، والمؤتمر الدولي الذي ستنظمه العربية السعودية وفرنسا والنرويج، ستذهب جميعها أدراج الرياح، إذا ما استمر نتنياهو في نرجسيته وقناعته بأنه أكبر من العالم ومن فيه. فهل يتدارك العالم الحرب المتسارعة في غزة، أم يفشل من جديد في لجم نتنياهو؟ ننتظر ونرى.
s.saidam@gmail.com