رام الله- معا- في مشهد يعيد إلى الذاكرة أسوأ صفحات الحروب البشرية، تمارس إسرائيل في قطاع غزة منذ أشهر سياسة تجويع ممنهجة بحق أكثر من مليوني مدني، من خلال منع دخول الغذاء والدواء والماء والوقود، واستهداف المرافق الزراعية والطبية، وعرقلة عمل منظمات الإغاثة.
تقول الأمم المتحدة إن غزة تواجه الآن "أعلى درجات انعدام الأمن الغذائي التي سُجلت عالميا"، في وقت تؤكد فيه منظمات حقوقية أن "إسرائيل تستخدم الجوع سلاحا لإخضاع السكان"، في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني.
فصول متكررة من التاريخ الدموي
استخدام التجويع كسلاح حرب ليس جديدا، لكنه لطالما ارتبط بأنظمة استبدادية وحروب دموية. في الحرب العالمية الثانية، فرضت القوات النازية حصارا قاسيا على لينينغراد (سانت بطرسبرغ حاليا)، أدى إلى وفاة أكثر من مليون مدني جوعا. لاحقا، في حصار سراييفو خلال حرب البوسنة، استخدم القادة الصرب الجوع لتركيع المدنيين، وانتهى الأمر بإدانتهم في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.
غزة... نموذج حديث للجريمة
منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة، منعت إسرائيل إدخال المواد الأساسية، رغم صدور قرارات محكمة العدل الدولية تطالبها بضمان وصول المساعدات دون عوائق. كما شنّت غارات جوية استهدفت مخازن الغذاء، مزارع، وحتى طوابير المدنيين المنتظرين للمساعدات.
وتقول منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير حديث: "تستخدم إسرائيل التجويع كسلاح ضد المدنيين في غزة. وهذا يشكل جريمة حرب بموجب القانون الدولي".
ماذا يقول القانون؟
• اتفاقيات جنيف (1977): المادة 54 تحظر "تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب".
• نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998): يُدرج "حرمان السكان عمدًا من المواد الضرورية للبقاء على قيد الحياة" ضمن جرائم الحرب.
• قرارات مجلس الأمن نصّت بوضوح على منع استخدام الحصار والتجويع كسلاح.
أين يقف العالم اليوم؟
ورغم هذا الإجماع القانوني، فإن الموقف الدولي تجاه إسرائيل ما يزال مشلولًا، بسبب دعم الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، التي توفر مظلة حماية سياسية تمنع اتخاذ إجراءات فعالة في مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية.
ومع ذلك، بدأت أصوات جديدة تظهر. جنوب أفريقيا تقدمت بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية تتهمها بارتكاب إبادة جماعية، بما في ذلك استخدام التجويع. ومنظمات أوروبية باتت تطالب بفرض عقوبات ووقف تصدير الأسلحة.
ختاما: جريمة موثّقة تنتظر العدالة
ما يجري في غزة ليس كارثة إنسانية عابرة، بل سياسة تجويع متعمدة، موثقة بالشهادات والصور والأرقام. إنها جريمة حرب مكتملة الأركان، ولا يحتاج العالم إلى لجان تحقيق جديدة بقدر ما يحتاج إلى إرادة حقيقية للمحاسبة. فهل يصحو الضمير الدولي؟