الخميس: 03/07/2025 بتوقيت القدس الشريف

"سماسرة التكييش": التجار أم المبادرون وراء أزمة السيولة بغزة؟

نشر بتاريخ: 02/07/2025 ( آخر تحديث: 02/07/2025 الساعة: 23:20 )
"سماسرة التكييش": التجار أم المبادرون وراء أزمة السيولة بغزة؟

غزة- معا- إسراء البلعاوي- في مشهد أصبح مألوفًا بغزة، يتجمع المواطنون على ناصية مفترق الغفري بمدينة غزة ليسألوا صرافًا شابًا عن نسبة العمولة اليومية. وعلى الرغم من أن إجابته غالبًا ما تثير الحسرة، إلا أن الحاجة الملحة تدفعهم لقبول العرض، حتى لو تجاوزت نسبة العمولة 45%، بعد مرور نحو عامين على حرب الإبادة التي دمرت خلالها القوة المحتلة القطاع المالي في غزة بالكامل.

يكافح المواطن الغزي لتوفير أدنى مقومات الحياة، ليجد نفسه ضحية لاستغلال الصرافين والتجار "المكيّشين" الذين يستغلون حالة الفوضى الناجمة عن الحرب. يضطر الكثيرون للتنازل عن ما يقارب نصف أموالهم مقابل الحصول على النقد.

حياة منهكة وعمولة ضخمة

تُعَدّ هذه الممارسات نتيجة لتفاقم أزمة السيولة، حيث يُتهم التجار بتخزين الأموال خارج البنوك، واحتكار السيولة المتاحة، مما أدى إلى ظهور "سماسرة التكييش". كما يُحمّل جزء من المبادرين المسؤولية عن الأزمة، بقصد أو بدون قصد، لتعاملهم بكميات كبيرة من النقد، مما عزز نفوذ "تجار الحروب".

في أحد مكاتب الصرافة بشارع السرايا، تحاول الشابة هالة (26 عامًا)، التي تعمل في العمل الحر وتُعد المصدر الوحيد للدخل لأسرتها المكونة من تسعة أفراد، إقناع الصراف بتخفيض نسبة العمولة البالغة 45%. تحتاج هالة إلى المال لتغطية تكاليف عملية جراحية لشقيقها محمد (سبع سنوات)، الذي يعاني من طفرات جينية ويتطلب دواءً خاصًا وحفاضات وطعامًا باهظ الثمن، بالإضافة إلى أعباء النزوح المتكرر ودفع إيجار المنزل ومكان العمل. تقول هالة بألم: "مضطرة الآن لدفع أكثر من ثلث مستحقاتي كعمولة، ولدفع أجرة المنزل المتهالك الذي استأجرناه، ولدفع أجرة المكان الذي أعمل منه بحثا على الطاقة والإنترنت، ناهيك عن ثمن توفير كيلو الدقيق الواحد الذي وصل لـ 80 شيقل".

"السكين على الرقبة"

في مواصي رفح، وتحديدًا عند مفترق "فش فرش"، يصف يوسف، مسؤول مكتب "سعد الدين" للخدمات المصرفية، الوضع قائلاً: "المواطن للأسف السكين على رقبته، مضطر للسحب خاصة أن عملية الدفع الإلكتروني لم تكن مجدية في الكثير من الأوقات". ويضيف أن مكاتب الصرافة تتعامل مع حالات مشابهة يوميًا، لكنهم مُجبرون على الانصياع لنسب العمولة التي يفرضها التجار، والتي قد تصل إلى 45%. ويُشير إلى أنهم كمكاتب وسيطة، لا يفرضون سوى 2% مقابل الخدمة.

ويُحمّل يوسف التجار المسؤولية الأولى عن أزمة السيولة، مؤكدًا أن أي محاولة للشكوى لسلطة النقد أو الجهات المعنية تقابل بإخفاء التجار للنقد ثم إخراجه بنسبة أعلى كنوع من العقاب. ولا يستثني المبادرين من الأزمة، حيث يرى أن سحبهم لكميات كبيرة من النقد "يزيد من جشع التجار في زيادة نسب العمولة".

النقد يُباع في غزة

يُرجع رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة، عائد أبو رمضان، الأزمة في المقام الأول إلى سياسة الاحتلال التي ترفض السماح باستبدال النقد المهترئ بالنقد الجديد، بالإضافة إلى "الشائعات" حول عدم صلاحية بعض الفئات النقدية. ويؤكد أن "تجار الحروب" لم يتوانوا عن استخدام النقد كسلعة نادرة وبيعه. ويُشير إلى وجود "مافيا وطابور خامس وعملاء لإسرائيل يضيقون على أناس ويحاولون تدمير الاقتصاد الفلسطيني".

دعمت الغرفة التجارية استراتيجية لتشجيع الدفع الإلكتروني، لكن أبو رمضان يرى أن شح البضائع أجبر التجار على طلب الدفع نقدًا أو مناصفة بين النقد والدفع الإلكتروني، وهناك من يرفض الدفع الإلكتروني تمامًا. وينتقد التجار الذين يجبرون المواطنين على الدفع بقيمة أكبر إلكترونيًا، داعيًا المواطنين إلى تقديم الشكاوى للغرفة التجارية.

المبادرون وأزمة السيولة

يثير استعراض بعض المبادرين لمبالغ نقدية ضخمة عبر مقاطع مصورة استياءً واسعًا لدى سكان غزة، الذين يحملون المبادرين مسؤولية ارتفاع نسب العمولة لاعتماد التجار عليهم.

لكن المبادرة هبة أبو حزر، التي تنشط في جنوب قطاع غزة، تؤكد أنه لا يمكن وضع جميع المبادرين في سلة واحدة. فالعديد منهم يعانون من أزمة السيولة التي تعيق جهود الإغاثة، حيث يمتنع المانحون عن التبرع خشية أن يصل نصف المبلغ فقط للمستفيدين بسبب رسوم التحويلات والعمولات الداخلية. وتُشير أبو حزر إلى الارتفاع الطردي بين أسعار السلع ونسبة العمولة، وتصف الوضع بـ"دائرة مالية مجحفة للغاية". كما تعاني من رفض التعامل بفئات عملة معينة وبالتطبيق البنكي، مما يدفعها للبحث عن حلول بديلة، مثل إقناع تجار المخيمات بتوفير الأموال دون عمولة.

دور سلطة النقد "ضعيف"

قدمت سلطة النقد الفلسطينية حلولاً مثل "جوال باي" و"بال باي" ونظام الدفع الفوري "أي-براق" لمحاولة التغلب على أزمة السيولة. ومع ذلك، وبعد ما يقارب عامين على اندلاع الحرب، يُقيّم الدور الإشرافي لسلطة النقد الفلسطينية بـ"الضعيف"، وفقًا لمسودة ورقة بحثية نشرها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان). يُعزى ذلك إلى انعدام التنسيق بين سلطة النقد والجهات الحاكمة بغزة منذ الانقسام السياسي عام 2006، مما أضعف سلطة الردع والمراقبة.

من جانبه، يُرجع المشرف الإقليمي للرقابة بسلطة النقد الفلسطينية في قطاع غزة، رأفت الأعرج، تراجع الدور الرقابي إلى الظروف الأمنية وحالة النزوح دون وجود أي تعمد، مؤكدًا أن السلطة تتابع وتعمل على حل المشاكل وفق الإمكانيات المحدودة.

أوصت "أمان" بزيادة التنسيق بين سلطة النقد والجهات الحاكمة في غزة، وتعزيز المتابعة الميدانية، والتعاون مع الغرف التجارية لمنع تقاضي التجار عمولات باهظة، وتشجيع المواطنين على الإبلاغ عن الشكاوى.

تجار الحروب

تؤكد عدة مصادر على قيام تجار في غزة بسحب السيولة النقدية الصالحة إلى خارج القطاع لشراء سلع كالهواتف والسجائر والقهوة، بقيم تصل إلى 6-7 ملايين شيكل دفعة واحدة. يتوافق هذا مع مسعى الاحتلال لسحب العملة تدريجيًا من غزة كنوع من العقاب الاقتصادي، مما أدى إلى نقص السيولة، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وزيادة نسبة الأوراق التالفة.

يُشير المحلل الاقتصادي والمالي محمد سلامة إلى أن الاحتلال هو المسؤول الأول عن تعطيل النظام المصرفي وأنظمة الدفع في غزة. ومع ذلك، لا ينكر دور "تجار الحروب" في أزمة التكييش، قائلاً: "بطبيعة الحال، استغل تجار الحروب الأوضاع وفرضوا نسبة عمولة مقابل سحب الكاش مرتفعة". ويُرجع سلامة عدم نجاعة جهود سلطة النقد إلى كونها مؤسسة لا تملك الأدوات على الأرض، ولا تستطيع إدخال أو سحب النقود، ويرى أن الحل النهائي يكمن في وقف حرب الإبادة وإعادة النظام المالي.