بيت لحم- معا- في خيمة متواضعة نُصبت على أطراف مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، تجلس الشابة إسراء الأسطل (30 عامًا) تحمل في عينيها ما لا تسعه الكلمات من الحزن، وعلى دفتي كراسة قديمة رسمت وردةً ذابلة، ترمز لما تبقّى من أحلامها التي دفنها القصف.
إسراء، المهجّرة من السطر الغربي في خان يونس، هي واحدة من آلاف الغزيّين الذين خسروا كل شيء في الحرب الدامية التي اندلعت في السابع من أكتوبر. لكنها تحمل قصة أكثر تعقيدًا من مجرد فقدان منزل أو أوراق رسمية، إنها قصة طموح وألم وانكسار متراكم.
من الريشة إلى المشرط: مساران بين الطموح والواجب
وتقول الأسطل؛: "درست تخصصين مختلفين"، الأول كان أقرب لشغفها الفني: هندسة الديكور في كلية المجتمع، والثاني استجابة لنداء إنساني نابع من تجربة شخصية، حيث التحقت لاحقًا بدبلوم فني العمليات الجراحية في جامعة الأزهر، مستلهمة المسار من والدتها الراحلة التي توفيت بكورونا قبل أسبوع واحد فقط من تخرجها الثاني.
وتضيف الاسطل "دخلت التخصص عشان أمي"، تهمس إسراء، "كنت بدي أساعد الناس... كنت حابة أكون بمكان ينفع". ومع هذا الحلم، عملت عن بعد مع شركات خليجية، وادّخرت راتبها لشراء جهاز لابتوب حديث حتى تطور من مهاراتها وتبني سيرة ذاتية قوية تؤهلها للعمل في الميدان .
الحرب تسرق كل شيء
وتكمل:" لكن الحرب جاءت لتقلب الموازين. منزلها تعرّض للقصف، جهازها اختفى تحت الركام، وسيرتها الذاتية اختفت كما تبخّر مستقبلها المهني. لم يتبقَ لديها سوى ذكريات، ومجموعة من الرسوم التي كانت ذات يوم هواية جانبية تحوّلت لاحقًا إلى وسيلة عزاء نفسي.
وتتابع "ما ضل معي ولا وثيقة تثبت مين أنا... حتى الشهادة ما قدرت أستخرجها، لأن عليّ رسوم"، تقول إسراء، موضحة أنها رُفضت في العديد من فرص العمل بسبب عدم امتلاكها شهادة التخرج الرسمية. وكل محاولة جديدة كانت تُقابل بجملة واحدة: "نعتذر، لا يمكننا قبول الطلب دون شهادة."
عزلة بلا عنوان
اليوم، تعيش إسراء في خيمة لا تملك فيها سوى بعض الأغراض البسيطة. لا عمل، لا وثائق، لا شهادات، ولا حتى جهاز لابتوب يساعدها على إعادة بناء ما فُقد.
"بحس إني رجعت للصفر من أول وجديد"، تقولها وهي تنظر إلى السماء، دون أن تذرف دمعة واحدة. "لسا فيي نفس... بس مش عارفة من وين أبدأ".
نداء بلا صوت
قصة إسراء تشبه قصص كثيرين فقدوا في هذه الحرب ليس فقط منازلهم، بل أيضًا ملامح مستقبلهم. غياب الوثائق الرسمية، وصعوبة استرجاع الشهادات الجامعية، إضافة إلى الظروف النفسية والمعيشية الصعبة، تحوّل الشباب في غزة من طاقات إنتاجية إلى ضحايا صامتين.
في زاوية خيمتها، تُبقي إسراء على وردتها الذابلة مرسومة في منتصف دفترها، شاهدة على حلمين، أحدهما فني والآخر إنساني، لم يمنحهما الواقع فرصة للحياة.