ثقافة " الثلاثاء الحمراء" في مواجهة ثقافة " السداسية الزرقاء"
بقلم: د. مازن مصطفى- لندن
فور تصفحي لهذا الكتاب، استوقفتني شحنة الصدق فيه، وحرارته العالية في زمنٍ هبطت فيه السقوف، وتراجعت فيه القيم، وسادت فيه لغة الخنوع والتطبيع. هنا يعيدنا الصديق الشاعر المتوكل طه إلى وهج البدايات، إلى جذوة الشعر الفلسطيني المشتبك، عبر استحضار قصيدة “الثلاثاء الحمراء” بوصفها بيانًا شعريًا ضد ثقافة “السداسية الزرقاء” التي يلوّح بها اليوم بعض دعاة التطبيع والانكسار.
منذ أيام الدراسة والزمالة طلاباً في “ساح الوغى” ـ جامعة بيرزيت، وأنا أتابع المتوكل طه بشغف، قارئًا ومُصغيًا إلى ما يكتبه أو يُلقيه من شعرٍ ونثر، فقد كان ـ ولا يزال ـ الامتداد العضويّ للشعر الفلسطيني المقاوم، والابن الشرعيّ لذلك النسيج الوطنيّ الذي تشكّل في سبعينيات القرن الماضي، مع تصاعد الوعي الوطنيّ، سواء يساراً أو يميناً، وصولًا إلى الانتفاضة الكبرى، ثم إقامة السلطة الفلسطينية، فزمن الطوفان العظيم.
وإذا كنت أرى في المتوكل طه شاعرًا، فإنني أراه أيضًا جبهةً وطنيةً متكاملة من الشعراء، تُشبه في تكوينها وجوهرها حركة فتح ذاتها، التي ما زال المتوكل ممسكًا بجمرتها بيده، حارقًا بها ما التوى أو انكفأ أو تشوّه في النسيج الأول البهيّ.
وفي وفائه لهذا الامتداد، وهو الذي تربطه بالشعراء على اختلاف الأجيال علاقة شخصية هي جزء من " الشراكة الشعرية" لا يتردد المتوكل في العودة إلى الآباء المؤسسين للشعر الفلسطيني: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، أبو سلمى، وفدوى طوقان، وكذلك وفي غير مكان إلى الأبناء المؤسسين: محمود درويش، توفيق زيّاد، سميح القاسم، طه محمد علي، راشد حسين، ورفاقهم من شعراء المقاومة، ثم شعراء ما بعد النكسة كعبد اللطيف عقل، وأسعد الأسعد، وحنان عواد، وجمال سلسع، وعطا الله قطوش، وغيرهم.
ويمتد السياق إلى شعراء المنفى والمنابر: من معين بسيسو، وخليل زقطان، وهارون هاشم رشيد، إلى عز الدين المناصرة، وعلي البتيري، ومريد البرغوثي، ومحمد لافي، وزكريا محمد، ومحمد القيسي، وغسان زقطان، ووليد الخازندار، ووليد الهليس، ويوسف عبد العزيز، وزهير أبو شايب، وصلاح أبو لاوي. وأعتذر من عشرات الأسماء التي لم تُذكر هنا، خشية الإغراق، وإن كان غناهم يستحق أن يُسرد كما يُسرد الشعر نفسه.
الفصل الأول من الكتاب يتناول قصيدة “الثلاثاء الحمراء” لإبراهيم طوقان في دراسة نقدية مستفيضة، تُعد من القلائل التي عالجت البنية البلاغية والدرامية للنص الشعري في ارتباطه بسياقه التاريخي (إعدام الشهداء الثلاثة: فؤاد حجازي، محمد جمجوم، عطا الزير). ويُبرز المتوكل الأثر الفعّال للقصيدة، التي دوّت أصداؤها في الشارع الفلسطيني، وأوقدت جذوة التظاهر والمقاومة، وبقيت أبياتها محفورة في الذاكرة الشعبية. وقد وصفها بأنها “تعبير عن المطلق الذي يُؤطّر الزمن والتاريخ والإرادة، ولا عجب أن اختار لها طوقان البحر الكامل، بما فيه من صخب موسيقي ونبرة عالية تُحاكي لحظة الدم والفداء" والقبس من المتوكل.
في الفصل الثاني، يعاين الكاتب “المفاهيم الثورية في شعر أبي سلمى قبل النكبة”، مُمهِّدًا لذلك بتحليل الواقع الاجتماعي والاقتصادي في فلسطين، وتحديدًا بروز طبقات اجتماعية جديدة: من العمال إلى الفلاحين الأحرار، الخارجين من قبضة الإقطاع. ويُبيّن كيف انحاز أبو سلمى لهذه الفئات عبر ممارسته ووعيه، ووجدت ان المتوكل جمع قصائد الشاعر وأعاد إحياءها ومنها ما كان منسياً.
أما الفصل الثالث، فهو الأجرأ والأعمق. بعنوان: “محمود درويش ونقيضه (المفتاح والقفل): لماذا على الشاعر أن يعترف بالواقع أصلاً؟ مأساة النرجس، ملهاة الفضة”. هنا، يدخل المتوكل حوارًا نقديًا مع درويش، لا بوصفه أيقونة لا تُمسّ، بل بوصفه صوتًا قابلًا للفحص والتحليل. يتتبع فيه موقف محمود من “الآخر”، ويُشير إلى ما يراه حيادية أو تماهيًا معه أحيانًا.
وفي تقديري الخاص أن انتماء درويش السابق للحزب الشيوعي (راكاح) يُفسّر هذا الموقف ـ و فهو متطابق مع موقف رموز الحزب مثل اميل حبيبي اساساً و إميل توما، وصليبا خميس وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد. ومع تطور لغة درويش وبنيته الشعرية، بعد خروجه من فلسطين وانفتاحه على القصيدة العربية والعالمية، إلا أن جذوره الفكرية بقيت على حالها.
ويُشار هنا إلى أن كثيرًا من الشعراء استشعروا في سطوع نجم درويش حجابًا حال دون نقده، ودرعًا كثيفًا غطّى على توهّج غيره من الشعراء، كما شمس كيم إيل سونغ أو ماو تسي تونغ، لا يُرى إلى جانبها نجم آخر. وكم كنتُ أتمنى لو كتب المتوكل دراسته هذه في حياة محمود، لنعرف بماذا سيرد، وكيف سيكون اصطفاف الشعراء حينها!( ولا اعلم إن كان هناك)
الفصل الرابع يتناول تطور القصيدة الفلسطينية بعد نكسة 1967، ويرى المتوكل أن خصوصية الشعر الفلسطيني تُخرجه من المعايير النقدية الأوروبية الحديثة، لأن له وظيفة نضالية ومنبرية ترتبط بالمواجهة مع الاحتلال. وهنا أختلف مع الكاتب، إذ أرى أن المدارس النقدية الحديثة، من التفكيكية إلى ما بعد البنيوية، إذا ما تمثلناها جيدًا، يمكن أن ترتقي بالشعر الفلسطيني إلى مستوى العالمية، لا أن تُقصيه من ساحة التثوير فحسب.
بل إن المظاهرات العالمية المساندة لفلسطين، كما شهدناها مؤخرًا، لم تخرج من فراغ، بل حرّكتها رياح فكرية نشأت من أسماء كدريدا، وفوكو، ولاكان، وإدوارد سعيد، والتوسير وليفي شتراوس، وهي أسماء باتت حاضرة في مناهج جامعاتنا الفلسطينية العليا. وربما من حسن الحظ أن هذه الجامعات قد فتحت نوافذها أخيرًا للهواء الفكري العالمي ، بعيدًا عن الانغلاق والتقليد.
وأخيرًا، لا يُخفي المتوكل كما يظهر من العنون (في…)أن هذا الكتاب ليس أطروحة نقدية متكاملة، بل مجموعة من المقالات التي كُتبت في مراحل زمنية متباعدة، لكنها تتناغم ضمن نَفَسٍ فكري وشعري واحد، يتجذر في الأرض، ويرنو إلى الأفق.
مرحى لروحٍ وطنيةٍ صادقة، لا تكتب الشعر فقط، بل تكتب التاريخ من خلاله.
المتوكل طه هنا ليس ناقدًا فقط، بل وريثُ القصيدة الفلسطينية ورافعُ لوائها في زمن الهبوط العام