بقلم: د. صبري صيدم
مع كتابة هذه الكلمات تكون بريطانيا قد اقتربت خطوة نحو الاعتراف بذنبها التاريخي، إثر وعد بلفور المشؤوم، من خلال إعلان رئيس وزرائها كير ستارمر عن جاهزيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وليكرر هذا الإعلان ومن على منبر الأمم المتحدة وزير خارجيته ديفيد لامي. إعلان ستارمر ووزير خارجيته، وإن اعتبره الكثيرون خطوة بالاتجاه الصحيح وقفزة تاريخية مهمة، إلا أنه لم يأتِ خالياً من الشروط، بل جاء مقروناً بكون بريطانيا جاهزة للاعتراف، ما لم تغير إسرائيل الواقع المعاش في غزة وحربها المدمرة، وتسمح بدخول المساعدات وتوقف مصادرة الأرض في الضفة الغربية والتأثير على حل الدولتين.
إعلان ستارمر ولامي لم يكن ليأتي لولا معاناة الشعب الفلسطيني ونضالاته، ولولا بشاعة الصور التي وردت وترد تباعاً من غزة، ولولا واقع السرطان الاستيطاني الإحلالي في الضفة الغربية، ولولا بشاعة الحرب بتفاصيلها على الفلسطينيين بقيادة ثلاثي الطيش السياسي في تل أبيب، نتينياهو وسموتريتش وبن غفير. موقف لم يكن ليصدر أيضاً لولا تعاظم الضغط الداخلي على حكومة ستارمر من أركان حزبه، الذين وقع 230 برلمانياً منهم على رسالة تطالبه بالاعتراف، ولولا الضغط البشري الهائل لإنهاء محرقة الفلسطينيين ووقف حرب الجنون التي تقودها حكومة التطرف الصهيوني.
موقف ما كان سيصدر حتماً، لولا إعلان فرنسا الأخير، نيتها الاعتراف بفلسطين في سبتمبر المقبل، وخلال أعمال المؤتمر الذي تقوده باريس ومعها العربية السعودية، موقف لم يكن لولا ثبات مجموعة من العواصم العربية، أمام هول التهجير والتطبيع والتركيع.
خطوة كبيرة ومهمة تأخرت لأكثر من قرن من الزمن، إلا أنها وبشروطها جاءت منقوصة الزخم والدافعية، إذ ما كان من المفروض أن يقرن وعد ستارمر/ لامي بشروط، فهل إدخال إسرائيل 1000 شاحنة من الطحين غداً سينتفي الوعد، ويصبح غير قائم، بل حبرا على ورق؟ سياسة الخبز مقابل الكرامة، والطحين مقابل السيادة، والطعام مقابل الحرية، والمساعدات مقابل الاستقلال، يجب أن تزول من معجم السياسة البريطانية، فاليوم يومكم في داونينغ ستريت (مقر الحكومة البريطانية في لندن) فإما أن يكون وعدكم فيصلاً، وإما لا داعي له.
لا مجال للمناورة والمراوغة والمواربة بعد اليوم، فلامي المحتفي بإعلانه الذي رشح مع كتابة هذه الكلمات، قد أسند كلامه إلى وعد بلفور المشؤوم، ليذكرنا ويذكر العالم بأن ذلك الوعد، ارتبط بشرط الحفاظ على حقوق الفلسطينيين وعدم تغيير الواقع، إلا أن ذلك والكلام للامي، لم يحدث، ما جعل بريطانيا تتخذ قراراً بالاعتراف. لامي بدا فخوراً منتشياً بإعلانه وهو الذي وضع جهداً ملحوظاً للوصول إلى هذا التحول الجبار في السياسة البريطانية، بل بدا وأمام تصفيق أغلبية أعضاء الجمعية العامة بالوعد الجديد، وكأنه انتقم من الماضي الاستعماري لبريطانيا، الذي جعل من أسرته ضحايا هذا الاستعمار ذات يوم.
حسناً فعلت بريطانيا اليوم لكن فعلها منقوص لا محالة، فالشعوب وسعادتها وحريتها واستقلالها لا تقاس بحجم المساعدات التي تردها، ولا بأرغفة الخبز الذي تحصل عليها، بل بحجم الحاجة الكبرى لمعالجة خطأ تاريخي غائر، وإحقاق الحقوق وتطبيق العدالة وإنفاذ القانون الدولي. اليوم يومكم أن تجعلوا شروطكم خطوات مكملة للاعتراف لا بديلاً عنه. اليوم يومكم بأن تبتعدوا عن المناورة والتكتيك، فالسياسة فن الممكن وفن المستحيل أيضاً، فلتكونوا مع المستحيل في فعله وتحقيقه وتثبيته لا بإثقاله بالشروط والذرائع.
فلسطين حرة مستقلة، كاملة السيادة وعضواً دائما في الأمم المتحدة، هو تكفير واضح عن ذنب استفحل، وجرح استشرس، وظلم استحكم، فهل تفعلها بريطانيا في سبتمبر المقبل، أم يعود ستارمر في بحبوحة سياسية فيبتلع ما قاله؟ ننتظر ونرى !