بقلم: د. صبري صيدم
وأخيراً انتفضت سدني واستفاقت أثينا وثارت أمستردام وصاحت لندن وزمجرت بروكسل، ومعهم قائمة لن تنتهي ممن لم يستطيعوا أن يتحملوا فظائع الجوع التي ترشح من غزة، وما يصاحبها من صور تزلزل مشاعر الكون. فصراخ غزة وركامها، وأنين أطفالها وصيحات نسائها، تعدت منذ مدة مساحات القبول والسكون والسكوت، حتى عند من سلموا أنفسهم ذات يوم لرواية اليمين المتطرف.
أنين الأمعاء الخالية وفواجعها لا تشبه حتى المجاعات الكبرى، التي وثقتها عدسات الكاميرا وأسطر القلم وسجلات التاريخ، إذ تتكدس مشاهد الوجع على شاشات العالم، ويتهرب الكثيرون من النظر في عيون الأطفال، بعد أن ذبلت من شدة الجوع.
تنتشر الصور ويخجل الضمير من قسوتها، ويتساءل المتابعون: أي قرن هذا الذي نعيش فيه؟ وأي بشر هؤلاء الذين يقبلون صناعة المجاعة وهندسة الموت وصياغة الانتحار، لشعب بأكمله؟
تتحول الوجبة في كل بيت فلسطيني إلى حلم، وتصبح ثلاجات المنازل خزانات لما تبقى من الملابس، يصاحبها صمت مطبق وماء مغلي مع ملح، يعين الجائعين على تحمل الجوع، بينما تُمحى تفاصيل الحياة اليومية شيئا فشيئا، حتى تصبح مجرد نضال لأجل البقاء. تضيع اللغة أمام حجم الجريمة، ولا يبقى إلا فعل التضامن الصادق، ليكسر عار السكوت، بينما تصرخ الأمهات بألم بينما تتشبث الأيدي الصغيرة بما تبقى من رمق وفتات حياة.
تستفيق سدني اليوم بعد غياب نسبي عن المشهد، وتفاجئ العالم بانتفاضة الشارع دعمًا لغزة ولفلسطين، كأن الوجع الفلسطيني اخترق جدران الصمت الأسترالي الرسمي فجأة، وأيقظ الضمير الغائب والفعل التائه والموقف المراوح، استفاقت سدني ومعها العاصمة كانبيرا، لتتبع مواقف أوتوا ولوكسمبورغ وبروكسل وسانت مارينو ولشبونة ولندن وباريس والقائمة تطول وستطول أكثر.
وفي كلهم تقريباً سارت الحشود الغاضبة، رافعة الأعلام الفلسطينية وصادحة بالهتافات المناهضة للحرب، ومعها تسيدت اللافتات التي تندد بسياسة الحصار والإبادة الجماعية. عرب وعجم وأجانب، مواطنون ولاجئون وما بينهم من سكان أصليين ومستجدين، تتعالى أصواتهم الرافضة للتجويع والإبادة، فستحضر مشاهد من التضامن العالمي التي لم نرها منذ مظاهرات جنوب افريقيا أو فيتنام.
إن للعدالة حلفاء في كل مكان! نعم.. فقضية فلسطين لا ولن تموت، بل تعود وإن خفتت الأصوات حينا، إلا أنها ترجع من جديد أقوى وأوضح وأكثر جرأة.
وبين هذا وذاك يطل رئيس بلدية أثينا بموقفه الجريء، ويرد على السفير الإسرائيلي بعد انتقاده لرسوم مؤيدة لفلسطين في شوارع المدينة، حيث خُطّت على الجدران كلمات من دم وكرامة. يقول الرجل دون تردد: لا نقبل دروسا في الديمقراطية من قتلة الأطفال في غزة، في جملة واحدة لخصت الموقف الأوروبي الحقيقي، لرجل ينطق خارج حسابات المصالح ومراكز الضغط والإسقاط وشراء النفوس والضمائر. لتعود اليونان، وإن صمتت بعض حكومات ما بعد باباندريو، لتبرهن أن ضمير شعبها لا يعرف الصمت، لأن القيم لا تُباع ولا تُشترى في سوق السياسة والنخاسة والتعاسة.
وبالتزامن مع مشاهد الفخار هذه، يأبى رئيس مجلس النواب الأمريكي إلا أن يذكرنا من مستوطنة إسرائيلية مقامة على أراضٍ منهوبة من أهلها وأصحابها في الضفة الغربية، بدعم بلاده لحق إسرائيل في ضم الضفة الغربية، في مشهد استفزازي لمشاعر الملايين.
يستعرض الرجل تحالفاً سياسيا وأخلاقيا مفضوحا، فيسبح عكس التيار فيغض الطرف عن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ويمنح الغاصب صكا مفتوحا بمواصلة التوسع متجاهلاً معاناة ملايين الفلسطينيين، ومتبنياً الرواية الصهيونية كأنها حقيقة مطلقة لا جدال فيها، ويُشرعن بالتصريحات ما عجزت عنه الدبابات، فيدوس على مفاهيم العدالة والشرعية الدولية، ويحوّل برلمان بلاده إلى منبر تطبيع وتبرير للقتل والتوسع والاستيطان، متناسيا أن الشعوب لا تنسى من وقف مع الظالم ضد المظلوم.
يكتب التاريخ اليوم كلماته بدقة، ولا يرحم أولئك الذين باعوا ضمائرهم، أو صمتوا أمام الجريمة، مهما بلغت مناصبهم أو علت أصواتهم الزائفة. يشهد العالم من يقف مع الحق ومن يفرّ منه، ومن يصرخ لأجل الجياع، ومن يشرعن القتل باسم السياسة أو الدين، ومن ينحاز للحرية لا للمصالح الضيقة وجشع الغازين.
وبين هذا وذاك وبعد أن استفاق العالم بأسره وحكوماته المتجاسرة التي لطالما أوصدت أبوابها وعيونها وقلوبها عن الفلسطينيين، يعود نتنياهو ليقول: فليسقط العالم، سأحتل غزة! وأطرد الفلسطينيين من أرضهم على طولها وعرضها. فأنا من يحكم العالم ويأمره وينهره! فهل تنتفض سدني من جديد؟ ننتظر ونرى !