الأحد: 19/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

امرأة من يافا

نشر بتاريخ: 15/01/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:26 )
-I-


مَنْ أنا ؟
المرأةُ التي تُخوّض في وَحْل المُخَيَّم،
وتطبخ الحجارةَ، وتغسل الجذور،
وتنشرُ في الممرّ الضيّق ثوبَها الوحيد؟
أم تلك التي تتراءى لي في صحوي؟!
ليس حُلماً ما أرى !
أكاد أعدّ عروقَ النعناع على صدرها،
وَحَبَّ الرمّان المنفرط على كُمّيْها،
وأشمّ رائحةَ القرنفل تحت إبطيْها !
هي أنا؛
الساكنةُ في باب الجبل العالي،
أصعد على درج الورد، فيلقاني بلباسه الكتّاني،
يهبط مبتسماً إلى المدينة،
كأنه يوميء بالرضا، عمّا أحسّه من جسدي الرّخِص،
وكان يقلّبه كالكمّثرى بين فكّيه ويديه ..
حتى سال الثعبان إلى الموق المتلهّف
لماء الصّلب والترائب !
وأكاد أسمع سقوطَ الماء في الجرار،
والسَّقّاءُ يدلحها من قِرَبه اللّدنة،
وَعَرقُه يختلط بالسّهل الرقراق !
وأمرّرُ بأصابعي على أطراف السرير المفرود،
والصندوق ثابت في مكانه الثقيل،
يحضن غلالاتي وأحزمتي وأوراق الورد الناشفة !
ها أنذا، ألفّ وشاحي المزركش، وقت الغروب،
والعسلُ يفيض على أبواب الجبال الهادئة،
والصغارُ يتلهّون بألعابهم، كأنهم يخربشون
صفحةَ السماء بأيديهم الصغيرة، ويتركون للغيم
الخفيف لعبةَ البياض، من جديد !
وها هوالممرّ ، ينعرج تحت ناظري،
كالتنّين المجوّف، والمُثقَّب بفتحات تُفضي إلى
الدكاكين والطرقات الصغيرة !
وها هي الساحة، والباعة، والأصداء ..
وها هو الليل يعود ساحراً، يشمل كل المدينةِ
بِغَبَشِهِ الشفيف الداكن!
لقد انتهيتُ من إعداد الطعام ،
وسكبتُ جرّتين من الماء ورغوة الغار على جسدي !
وحزمتُ قبضتين من الحبق والمنثور،
وخزنْتها .. حتى تطيب الرياح !
.. ليأتي ويأكل، ويشرب النبيذ .. ويتلمّظ ،
ليسأل قليلاً، وليخلع درّاعته الحرير،
وليتمطّى ويغفو على صفحة الناي،
ليعود من جديد بأنفاسه التي تُذيب لحمي،
وتلهب صدري بتمسيد أسنانه ولسانه،
وليزحف على سفح الحليب، ويزرعه بأشجار النار،
ويتحسّس منابت الزغب المحصود،
ومسكب اللّبن الحلو،
وليمتصّ آخر جمرة في أطراف قدمي،
لتنتفض حواء الأولى،
وتبكي، في نحيبها الحبيب، توقَ الجنّة إلى الجحيم ،
وتنزلق في هُوَّ الغياب والغفوة ..
وتصحو، لتجد الأيلَ يرعى على سهوبها،
يقضم البندق، ويعبّ الموجة من جديد!

هذه أنا !
غير أني أعود من حُلم اليقظة،
فأجدني أجلس على حجرٍ غشيم،
وأرى أحفادي بأسمالهم الكابية، مع أترابهم
المعفّرين ، يتقاذفون كرة المطاط ..
وصوت الرّصاص ينبىء بدمٍ جديد !

-II-


ليس حُلماً ما أرى
بل إنني هي، تلك المرأةُ الحنطيّةُ،
زوج التاجرِ الذي ابتاع بيتَه قرب المدرج،
واكترى خادمتين، وله نوق وهوادج وأفراس .
وأبي كان رئيس الحَرس،
يصحبني لأرى، في الساحةِ، أفراحَ الأعراس،
وعروض جماعات تأتي من أرض الهند أو الصين أو الشام،
وأذكر ذاك الساحرَ "بيشام" !
وكيف يشقلب في الريح بلا حَبْلٍ، أو
كيف يُطيّر من كفّيه مناديلاً وحَماماً ..
ويؤرجح في المدرج أفيالاً ..
أذكر أني، في عيد الأزهار، ذهبت مع أخويّ
إلى مراجيح الساحةِ،
وهناك سقطتُ من النجمةِ ،
وانصدعت قدمي، وانشجّتْ ركبتي،
وانمزع الفستان ..
بكيتُ عليه !
ولبّدت أُمّي بالبُّن وبرماد الوجاق الجُرْحَ،
وَرَثَتْ جارتُنا الفستان !
أذكرُ يوم ذهبتُ، باكيةً، مع أمّي إلى
حُوش الكُتّاب !
وكيف نسيتُ الدار وأهلي،
وانغمستُ مع الأيقاعِ وتهجئة الأسماء،
وكنتُ أحمل كشكولي، كل صباحٍ ، لأحفظ كلمات الأحجار !
أنا تلك الصبيّةُ التي فاجأها الكرز ،
فوضعتُ يدي لأستر بقعة الأرجوان،
وكيف ابتسمتْ أمّي، وأخذتني إلى المغتسل،
وَهَمستْ في أذني، فاشَتَعلتْ رئتيّ !
وحزّمتني بسحابات الصيّف ..
وتناثرت فراشاتي وحكاياتي مع المرآة،
وانتبهتْ نافذتي إلى عيون الزّهر،
وشهيق ابن الجيران !
وأرى، الآن، جلساتي مع أقراني؛
بنات عمّي وخالاتي، وقشور اللوز على الحيطان،
وضحكات السرَّ، ووصف الذروة
من تلك الملعونةِ، صاحبة الوشم الربّاني،
وكيف تنام على سَبَحات اللهفة .. حتى الهلع العذري !
أذكرُ ليلة تزوجتْ أُختي الكبرى!
وكيف عقصوا ريشَها بالليمون،
وطيّبوها بالماء الرانخ في القارورة بالأعشاب،
وكيف بكت أمّي ،
وتركت الحكايةَ لأُختها، حتى تدرك أختي
لعبةَ التحوّل مع الفحل الذي سيخلقها
بَِوتَره شجرةً أُخرى !
وها أنذا أجلس فوق السطحِ،
أفرد التين وحبّات العنب والخرّوب،
وأمسّد بالزيت بطن الشهد المتكوّر،
وأُراكم القرع تحت الظلّ،
وأجدل الثوم، وأعلّقه ضفائرَ على الجدران،
وأقنّب القرون الخضراء، وأشكّها جديلةً
على الحديد،
وأُسطّح الحمراءَ، وأرشّ رذاذَ البحر عليها،
وأفردها تحت الشمس ،
أو أعصر ماءها وأخفقه كالعجين، قبل
أن يغلي، ليتكثّف فوق الموقد!
أشمّ تلك الرائحة الصيفية الوثيرة،
وأرى أصابعي المصبوغة بمائها الذي
يسيل معه لعابي، وأنا أمسح ببرداني
عرقَ جبهتي ..
أين أنتِ يا تلك الأيام !!
ولماذا أراني في هذا البيت الصفيحي الخانق،
لا أجد غير عبوّتين شبه فارغتين،
للسكَّر والشاي،
ولا أكاد أجد ما أشمّه في روحي ؟


-III-

أنا هي، أنا هي !
أرى الآن شبحَ الجنود،
وهم يقتحمون المدينةَ، والنار تلتهم كل شيء!
والجلبةُ والدمُ والدخانُ والصراخ والعجاج والرّعب والجنون ..
كأن القيامة قد وقَعَت،
وكيف خرج الناسُ من بيوتهم مذعورين،
وقد تركوا أشياءهم، وربما أطفالهم !
وكأني أرى ذلك السربَ الطويل،
الذاهب شرقاً، ينزح نحو المجهول،
هرباً من بَقْر البطون واغتصاب البنات !
والمفاتيح تتدلّى من الأحزمةِ، تشير
إلى العودة بعد قليل !
_ لكنّي أنتظرُ عودتي منذ ستين وأكثر !
وقد التهمني الهمُّ، ومات زوجي التاجرُ،
وتشظّى أبنائي في السَّيرك الوطني،
وضاعوا في بحر الدم الكَذِب !
إنني، الآن، وحيدة في غرفة المخيم _
وتحيط بي المدينةُ، كأنني استلقي
على فِراشي، ليلة العيد،
وأرقب الصباح لينبلج، لأخرج بثوبي الجديد،
وأحثّ خطاي نحو بيت خالتي،
ونسرعُ نحو المراجيح ،
لربما نرى "بيشام" الهندي،
يسحرنا بيديه الرشيقتين،
قبل أن يأتي الجنود،
ويبيدون المدينةَ، ويُخْرِجون أهلها،
هكذا .. سِْرباً من الموتى واللاجئين !
ولماذا ترجع كل تلك الأيام، الآن ؟
كأنني بضفائري، أفتتح نهارها بخطواتي الصغيرة الثابتة!
أو أضوّع سطوحها بعبق دم المشمشِ والكرز !
أو أنشرُ الياسمين على أبوابها ليلةَ التحوّل المصوَّح !
أو أرتعش على رذاذ قُطْنها كزلزالٍ ودودٍ
يمرجح النجوم !
أو كأنني ألتفت ورائي فأرى الدخان
يُرمَّدُ كل شيء .. وأسيرُ منكسرةً إلى البعيد !
أو أنني جُرْمٌ هلاميّ يتلاشى تدريجياً،
ويصعد من كوّة الصفيح إلى السماء ،
لعله يتكوّم غيمةً تسقط بمائها على المدينة المهجورة،
أو يصبح نجماً يدور على بيوتها ،
فيرى آثارَ الداهمين، والدمَ المرشوق الأسود،
والهياكل المتراكمة
تحت التراب !
أو يصير حفنةً من تراب تعلو ..
وتمضي إلى فضاء المدينةِ،
وتحطّ على بابها، لتحتضن بذرة عبّاد شمس،
أو شتلة نور، تنمو وتنمو وتنمو ..
إلى أن تُظلّل المدينةَ من جديد .

-IV-
أنا أمرأة من فردوس يافا أو حيفا أو الرملة ،
ولدتُ وعشتُ وكنتُ هنا،
وتلك أمرأةٌ أخرى، لا أعرفها !
غير أن كوابيس الشيطانِ تلاحقني أحياناً ..
والوَهْمُ يحاول أن يسرقَ ثوبَ العيدِ ..
أعطوني الثوبَ،
وَلْتَبعدْ تلك المرأةُ عنّي ..