الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

فرنسا تجدد الحب القديم لاسرائيل والعداء القديم لنا

نشر بتاريخ: 05/08/2005 ( آخر تحديث: 05/08/2005 الساعة: 19:26 )
بقلم د.عادل سمارة
حلّ السفاح الصهيوني الاشكنازي شارون ضيفاً مبجلاً على الرئيس الفرنسي. كلاهما يزعم الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني. ولعل التشابه بين الاثنين فيما هو أبعد من ذلك بكثير. ففي حين يمثل شارون آخر بؤر الاستيطان الاستعماري الابيض، يمثل شيراك أحد فاقدي هذا الاستعمار والذين يرون ماضيهم الاستعماري الاستيطاني في الجزائر ممثلا في الابن المدلل لهذا النمط من الاستعمار، أي الكيان الصهيوني الذي يجدون فيه العزاء الاستيطاني.

قد يبدو هذا الحديث مؤذياً لمسامع الفرانكفونيين العرب، ومنهم الفلسطينيين بالطبع. فمنذ قرابة خمسة قرون يستميت الكثير من الساسة ومثقفين عرباً لخطب ود فرنسا. يغسلونها بماء الورد والبَرَدْ من أدران راس المال والاستعمار، ويصبون عليها العطور الشرقية ويدهنونها بمختلف مساحيق الغرب ايضا، ومع ذلك، فإن رأس المال الفرنسي كاي راسمال غربي استعماري لا ينظف!. وما الذي ينظف فرنسا من جرائمها، والتي ليست اقلها بناء المجمع الذري الصهيوني! فماذا تساوي كافة أكاذيب ومخادعات فرنسا الرسمية للعرب مقابل القنابل النووية؟ ولكن، هل هناك من يسمع؟

مناسبة هذا القول هي زيارة شارون الى فرنسا. فقبل قرابة العام وقف شارون متهجما على فرنسا وداعياً اليهود هناك للاستيطان في فلسطين على اعتبار ان فرنسا مفعمة باللاساميين؟ والمقصود عربا ومسلمين.

وبدوره ادعى شيراك أنه غضب من أحاديث شارون وطالبه بالتوضيح. ولكن، حينما قدم شارون توضيحاً أكد على ما قاله في السابق.

وما ان حصلت تفجيرات لندن الاخيرة حتى جرى ترتيب زيارة شارون الى باريس على عجل. وهذا يندرج في اغتنام الصهاينة للمناخ العالمي ضد "الارهاب" لكي تحصل على اعلى تنازلات ممكنة من إحدى دول الغرب الاوروبي التي لها تاريخ "عريق" في اللاسامية، وليس هذا التاريخ بالطبع على علاقة او نتاجاً لوجود عرب ومسلمين في فرنسا بل قبل وجودهم.

ولكن ايضا، هل المسألة حقا هي مهارة الصهاينة، أم كون الراسمالية الفرنسية جاهزة لتلبية مطالب الصهاينة بمعنى انها تنتظر على عجل أية فرصة لتقديم الدعم للكيان الصهيوني الاشكنازي، بما هو وليد محبب لهذا الراسمال الاستعماري.

والدعم للكيان الصهيوني يعني مباشرة العدوان على الامة العربية ببساطة ووضوح. فإلى جانب الاتفاقات السرية التي تصاحب علاقات دول عدوانية كفرنسا والكيان الصهيوني، شن شيراك هجوما على حزب الله، واعتبر سوريا مصدر الاضطرابات في المنطقة، واثنى على خروج الجيش الاحتلالي الصهيوني من بضعة دونمات في قطاع غزة. .

اين يكمن الخلل في العلاقات العربية-الفرنسية، التي يزعمون أنها الافضل بين أية دولة أوروبية والعرب؟ هل المسألة مجرد مصالح فرنسا الرأسمالية أم ان هناك مصالح وإلى جانبها تزلفا ودونية من الساسة ومثقفين عرباً؟



الدونية التعليمية

تعج المناهج التدريسية العربية بمديح عصر الانوار ولا سيما في فرنسا، ويتم نقل الجوانب التي تصور الكثير من المفكرين الفرنسيين كأنهم مثل اعلى كما لو كانوا نماذج تُحتذى أو أعلاماً للفكر الانساني، وتخفي بالطبع الجوانب العنصرية التي ينسف مجرد وجودها مصداقية إنسانية هؤلاء المفكرين.

نحن لا نتحدث هنا عن إرنست رينان العنصري بلا رتوش، والذي من بين ما كتب:

"...الشرط الاساسي لانتشارها (العبقرية الاوروبية) هو تدمير المنتج السامي بامتياز، تدمير السلطة الثيوقراطية الاسلامية، ومن ثم تدمير الروح الاسلامية... الحرب لن تتوقف الا عندما يموت آخر ابناء اسماعيل من البؤس... ان الاسلام هو النفي الأكمل لاوروبا، والاسلام هو التعصب ، الاسلام هو احتقار العلم والغاء المجتمع المدني، إنه ببساطة الروح الاسلامية المرعبة التي تضيق الدماغ البشري، وتغلقه أمام كل فكرة مرهفة... أمام كل بحث عقلاني..."[1]

ولكننا نتحدث عمن جرى تقديمهم لنا كملائكة! فلم نقرأ في كتب التاريخ والفلسفة ابداً أن فولتير كتب التالي:

" إنني أتصور محمدا متعصبا عنيفا ومحتالا.. وعاراً على الجنس البشري، الذي من تاجر اصبح نبيا، مشرِّعا وملكا انه يجسد خطر التعصب"

( ورد في هشام جعيط: اوروبا والاسلام دار الحقيقة ط1 ، 1980 ترجمة : دار طلال عتريسي، ص 32)

وكتب كذلك:

"ليس القرآن إلا نسيجاً من الخطب المتناقضة والغامضة والارشادات المضحكة والخطيرة" فخاصية القرآن "الطغيان المطلق للذي يأمر والتضحية العمياء للذي يطيع" ( ورد في هشام جعيط: اوروبا والاسلام دار الحقيقة ط1 ، 1980 ترجمة : دار طلال عتريسي، ص 34)

أما كوندرسيه فينقل المسألة الى ما هو أوسع من النطاق الديني والثقافي ليعممها على كل من ليس أوروبياً:

"لا وجود إلا لسلم وحيد للحضارة وفي قمته توجد "حالة الحضارة" التي توصلت اليها الشعوب الاكثر استنارة، والاكثر تحرراً، والاكثر تخلصا من الافكار المسبقة، وهي الشعوب الفرنسية والانجلو-اميركية".[2]

أما نابليون فزعم كتبرير لحملته الاستعمارية على مصر بأنه قدم من طرف السلطان لتخليص "الدين والحق من يد الظالمين المماليك".[3]

ولكنه اكتشف بالطبع أن مصر ليست كما زعمت تقارير الرحالة الفرنسيين اليها، هؤلاء الرحالة الذين كان معظمهم مجرد عملاء للدولة أو مستشرقين في أرقى الاحوال. فقد كتب نابليون عن مصر:

"هذه الامة تختلف كل الاختلاف عن الفكرة التي اخذناها من رحالتنا. انها امة هادئة، باسلة، معتزة بنفسها". والمعنى نفسه يؤكده اخوه لوي في قوله: "ان في الشعب المصري رباطة جأش مدهشة فلا شيىء يهزهم."[4]

وفي حين قرأنا في كتب التاريخ، وكذلك في كراسات التثقيف الاشتراكي والماركسي العربي عن سان سيمون أنه مؤسس المدرسة الانسانية في الاشتراكية، والتي تحاول تطبيق الاشتراكية بحسن المعاملة والتعامل دونما صراع طبقي. ولا ندري إن كان رسم هذه الصورة للسانسيمونية عن براءة أم عن شعور دوني. فقد قدم جماعة سان سيمون هؤلاء الى مصر في أعقاب سقوط نابليون في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وذلك في سياق قيام حكومة محمد علي باستقطاب خبراء أجانب، هذا ما فتح الباب للسانسيمونيين.

ومن المثير أن حاول هؤلاء اقناع محمد علي بانجاز مشروع قناة السويس عن طريق فصل القناة عن مصر وتمويلها دوليا[5] ، اما محمد علي فرفض ذلك واصر على تمويل مصري. لذا فرض تفضيل بناء القناطر الخيرية الذي لم يعجب السانسيمونيين لأنهم رأوه أمراً داخلياً لا يتطابق مع (الانسانية العالمية) التي يتبنونها وهي إنسانية لا تأخذ مصالح الامم في أوطانها بالاعتبار!

أما الأمر الآكثر استهجاناً، فهو محاولة السانسيمونيون اقناع محمد علي بالعمل على استثمار اراضي فلسطين لصالح محمد علي بتمويل يهودي عالمي، لكن هذا المشروع لم يلق بدوره أية استجابة من محمد علي نظرا لما يمثله من خطر استراتيجي متعدد الاوجه."[6]



محاولة استعمار مصر ثقافياً

تعود جذور النهج الاستعمار الفرنسي الثقافي، أي البديل للاستعمار العسكري المباشر او الاستيطاني كما حصل في الجزائر، يعود الى ما قبل القرن العشرين بزمن طويل. وحيث فشلت فرنسا في استعمار مصر، وحصل ذلك لصالح الاستعمار البريطاني، كتبت إلهام محمد علي ذهني:

"امام واقع هذا التهميش والاذلال، وجد العديد من النخب العلمية والادبية الفرنسية في مشاريع (فرنسة مصر فكريا، وتحويلها الى مستعمرة) و"اقامة مستعمرة بلا نفقات" و "فرض نفوذنا الحضاري" و "الغزو الفكري لمصر".[7]

يذكرنا هذا بنشاطات الملحقات الثقافية في القنصليات والسفارات الفرنسية في الوطن العربي وخاصة في الاراضي المحتلة ولبنان. ففي حين تقوم فرنسا بإعادة احتلال لبنان بمساعدة أميركا، وبمحاولة استعمار سوريا، تقدم فتاتا من الفرنكات "للمتفرنكين" في الاراضي المحتلة ليسوقوا ثقافة رأس المال الغربي الفرنسي.

كانت هذه النخب الفرنسية حريصة على ان استعادة مكانتها في فرنسا، عن طريق ما تقوم به من اعمال "تحضيرية" في الخارج. ولعل بعض ما رود في رسالة الاب الروحي لانصار سان سيمون في مصر، ب. لنفانتان والتي ارسلها الى آرلس دوفور، في 13 كانون الثاني عام 1836، ما يسعنا كشف المناخ الايديولوجي الذي خيم على منطق عمل هذه المجموعات. فقد جاء في الرسالة ما يلي:

" ثمة ضرورة ملحة فرضتها السماء حتى يشهد القرن التاسع عشر آثارها، ألا وهي استعمار الغرب للشرق. لأن الله يدعو روسيا صوب الاناضول وفرنسا صوب مصر وانجلترا صوب ارض الفرات من اجل ادخال المدنية الاوروبية الى هذه البلاد... ونشر ألوية الحضارة بين ربوعها وذلك بالقيام بحملات صليبية سلمية لنشر الحضارة المسيحية ودعم اركانها".[8]

وهكذا، يتمكن راس المال من تسخير الله لخدمة توسعه وتعطشه للربح. وهكذا تصبح خزعبلات مأفون ديني ارضية لمشروع او مشاريع استعمار ينتج عنها دماء ملايين لا تجف عبر قرون. وهكذا أيضا، يمتطي راس المال المصابين بالهستيريا الدينية ليحتلوا أمما بأكملها ويزرعوا بذلك حقدا تاريخيا لا يتوقف عند التفجيرات التي نرى اليوم.

يقول حسن الضيقة، ونظراً لفشل اتباع سان سيمون في مصر انتقلوا الى الجزائر التي كانت قد استعمرت لتوها من قبل فرنسا. وفي الجزائر تحول اتباع سان سيمون الى دعاة للاستعمار الاستيطاني.

تكمن أهمية هذه الاقوال في أنها كانت مثابة ثقافة التأسيس للاستعمار الرأسمالي الفرنسي في العالم وفي الوطن العربي قاطبة. وهي مزيج من تسخير الدين، والثقافة العلمانية لصالح راس المال الفرنسي. أما بعد هذه المرحلة فكانت مرحلة تنفيذ المخططات الاستعمارية وممارسة عملية النهب الاستعماري وما رافقها بالطبع من ذبح للشعوب التي خضعت للاستعمار ولا سيما الاستعمار الفرنسي سواء في القرنين التاسع عشر والعشرين.

ومع ان الثورة الجزائرية هي المعلم الاساسي في كشف وحشية الاستعمار الفرنسي، إلا ان تاريخ فرنسا في الوطن العربي ليس اقل دموية من أي استعمار آخر. ويكفي ان نشير الى اتفاق سايكس ـ بيكو1916، واحتلال سوريا ومذابح الجنرال غورو فيها في أوائل عشرينات القرن الماضي، وإلى العدوان الثلاثي على مصر 1956 والى العدوان الثلاثيني على العراق 1991. وإلى دعم فرنسا للنظام المغربي بما فيه اختطاف وقتل المهدي بن بركة.

أما وكل هذا حدث ويحدث، فلماذا لا يتسائل الشارع العربي عن الدوافع وراء وجود جيش من الفرانكفونية في الوطن العربي، جيش من المنظمات غير الحكومية الممولة من الاستعمار الفرنسي، ولماذا ما من أحد يسائل الانظمة العربية التي تفتح للاستعمار الفرنسي ابوابها وتزعم أنه بلد "صديق"!