الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

قبلة بيت لحم الاخيرة.. المسيحيون والمسلمون تعمدوا بماء الحرية والحياة

نشر بتاريخ: 29/02/2016 ( آخر تحديث: 29/02/2016 الساعة: 11:48 )
قبلة بيت لحم الاخيرة.. المسيحيون والمسلمون تعمدوا بماء الحرية والحياة
بقلم: عيسى قراقع
وقف الكاتب اسامة العيسة في روايته ( قبلة بيت لحم الاخيرة) على بلاط كنيسة مهد المسيح عليه السلام بعد غياب 20 عاما في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وفي بكائية صحفي ومؤرخ وموثق، وبالحسرات والخيبات وبصوت الضحية، اخذ ينادي على الاسماء والجغرافيا والحجارة والبيوت، على الناس والآبار والذكريات ، على الشهداء والابطال، كأنه المقتول عاد فجأة الى الحياة، مصدوما يسأل : من قتلني؟ من قتل مدينتي، من صلبني مرة أخرى ووضعني في كبسولة مغلقة، وحبسني في أقفاص وسرق المكان.

ويظل الكاتب يصرخ بفجع في روايته التي امتدت الى 304 من الصفحات الغاضبات، معلنا للناس انه لن يعود الى عالمهم الحالي، الى هذا العالم الذي يكره السينما، تلاشت منه الحياة المدنية، وتراجعت العلاقات والثقافة والقيم والمواقف، عالم جديد يرتدي الاقنعة ، مستسلم للامر الواقع القاسي، معلنا انه سيتناثر ذرات وذرات في صحراء بيت لحم الممتدة حتى البحر الميت، ومعه مائة قبلة وقبلة، قبلة بيت لحم الاخيرة، من عالم درج الروم الذي تركه خلفه عندما اعتقل ، ووجده مدمرا عندما خرج.

انها صرخة المسيح الفلسطيني قبل ان يطبع قبلته الاخيرة على نجمة الميلاد، ينادي تلك الايام التي كان فيها المسيحيون والمسلمون يتعمدون في الكنيسة، يغتسلون بماء الحب والحرية والحياة ، يحملون اسماء مشتركة، يقدمون النذور للأولياء والقديسين ، صلاتهم واحدة، فزعهم واحد، بيت تلحمي تجمعه الصلاة وهوية الانتماء للارض والسماء، لا طائفية ولا عصبوية امام اله واحد ووطن واحد.

يقول الكاتب في وجعه المزلزل: انا رائد المسلم، صرت حنا المسيحي، تعمدت في الكنيسة، ولبست زي الراهب، وجاءت التلحميات المسيحيات الى باب الجامع، قدمن النذور ضد قرائن الشر، باركني الخوري وباركهن الشيخ، لحماية اطفال فلسطين من الاحتلال والملاحقة والوباء والنكبات.

ما الذي غيرنا وجعل الحزب اهم من الوطن؟ تغيرت المفاهيم والخطابات، انتشرت الولاءات والفساد والمصالح، وتفرقنا بعد ان اختفت وحدة النسيج الاجتماعي والمفاهيم الوطنية وافسدت النخب الثقافية والسياسية.

ويستمر الكاتب في نشيده التاريخي واسئلته القاسية وهو يرى المكان يتغير كما تغير الناس، تفككت الجغرافيا، وصهر الاحتلال الوعي الفلسطيني وتطلعاته الى الحرية والكرامة، فبيت لحم خطفت ، واضحت زنزانة، فصلوها عن القدس ، الارض تبدو محايدة وطوع امر الجرافات التي تدمر وديانها وجبالها وصحرائها، جدران وانفاق ومستوطنات وشوارع التفافية، بوابات وحواجز عسكرية وترابية.

ويستدعي الكاتب التاريخ، الاتحادات النسائية للتلحميات اللواتي تطوعن في نجدة الثوار المقاتلين في حرب 1948 ، دور الاسعاف والانقاذ، اسطورة انطون داود الذي فجر الوكالة اليهودية، دور الكشافة المسيحية والرهبان والراهبات في الصمود والتمسك بارض الميلاد، يقرعون الاجراس في وجه الغرباء والمحتلين، كان تشابكا مسيحيا اسلاميا، وطالما صامت مسلمات في عيد العذراء وعيد البربارة وعيد الفصح، ونذرت مسلمات ومسيحيات بقراءة المولد لحفظ احبائهن، وجلسن حول شيخ الجامع وهو يرتل آيات القرآن الكريم.

يقول الكاتب لقد ازدادت غربتي بعد السجن، بعد قيامتي الجديدة، صرت كالتائه في بلاد كأني اراها للمرة الاولى، سرق السجن 20 عاما من عمري، لكنه سرق جغرافيا ذاكرة عمر بأكمله.

الكاتب يمشي في حارات بيت لحم القديمة، في الاسواق والازقة، مع الفقراء والفلاحين والباعة، رائحة حضارة إنسانية عريقة، رائحة الدبس والنعنع البلدي والزيت والخبز السرياني، رائحة حب دافئة في كل مكان، فما الذي تغير الآن، يسأل الكاتب متعجبا حتى من الاسرى الذين تغيروا داخل السجون، انتشرت الفردية والشللية وغياب التضامن الجماعي، مفككين يفترسهم السجان واحدا واحدا، ويشدد أقفاله وقوانينه العنصرية عليهم.

يحاول الكاتب في غربته الروائية النقدية ان يبحث عن ابطال سابقين، يدخل كنيسة المهد المحاصرة 40 يوما، يرى الجثث المتناثرة، يدخل القبور المهجورة، يقف امام نصب الشهداء احمد عبد العزيز والشهداء العرب، يستذكر شفيق حنظل وبنايوت زيدان واسكندر الخوري والاب ابراهيم عياد، وتغريد البطمة، وعبد الله تايه، وحسين عبيات، ولكنه لا يعثر على قبر الشهيدة رجاء ابو عماشة، ويمر الكاتب بين مرحلتين، الابطال هم انفسهم ، ولكن غيروا فقط اماكنهم، يحتاجون الى حيز ذهني للاجيال المتعاقبة.

المسيحيون والمسلمون يقفون لحما ودما، حجرا وشهيقا، موتا وحياة امام وطن يتعرض للاستلاب والانسحاق، متسائلا بعد رحلته الروائية الطويلة: هل ما زال المسيحيون بعد كل هذا اهل ذمة؟

ويختتم الكاتب العائد الى حارات بيت لحم قوله: انه يحاول ان يعبيء النقص في المكان والذاكرة عندما حفر القبور والتاريخ، واحيا الاجداد والانبياء، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها، وعلى شعبنا الفلسطيني ان يفرض روايته على الارض والواقع، وان لا يسمح للاحتلال ان يفرض روايته وعبادته المسلحة على حياتنا وأحلامنا وثقافتنا الفلسطينية المشتركة.

سلام على بيت لحم
هي الحياة...
عسل احمر وخبز
شجرة تضاء في الظلام
دم يعمّد الناس
في الصلاة...