الأحد: 28/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

عندما يشن النحل هجوماً في الفلوجة

نشر بتاريخ: 06/06/2016 ( آخر تحديث: 06/06/2016 الساعة: 07:48 )
عندما يشن النحل هجوماً في الفلوجة

بغداد -معا - يُستقبل الهاربون فيطلب منهم استراحة سريعة فتطأ أقدامهم سجاداً مفروشاً بعد كيلومترات من السير على التراب. تنقل بعدها العوائل إلى ما يفترض أنه مكان للنازحين. دفعنا الفضول إلى إكمال المشوار للوصول إلى امرأتين اثنتين اعتقلتا. طلبنا ذلك من المسؤول الأمني الذي سبق أن وعدنا عبر رسالة نصية كتب فيها "تفضلوا هناك صيد داعشي".

ما إن اقتربت النساء الهاربات من الفلوجة من ضفاف الفرات باردة تشق أرضاً ساخنة، كانت الصدمة. ثلاثة من عناصر الأمن تركوا لشواربهم مساحة تتسع على ذقونهم سوداء. تركوا رجالاً هربوا من داعش يفترض بهم أمنياً أن يعمدوا للتحقيق معهم، وهجموا على امرأتين ترتديان زياً عربياً يقيهن حر صيف لاهب. دون رحمة باشروا بتنفيذ ما يزخر به قاموس الكيوكوشنغاي لاعتقالهما. ما حصل أثار دهشتنا، لكنه لم يحرك ساكناً لرجل هارب من داعش إثرهما. لم تطل الدهشة كثيراً. خلية نحل كانت كافية لتكشف ما أخفته حيلة التنكر.

في ساتر الكرمة، منفذ إنساني لا يختلف كثيراً عن جبهات القتال، حيث الحياة لمن يغامر بين معرقلات داعش من عبوات وقنص لإرعاب المغادرين. يستتر جنود ومقاتلون من الحشد لاستقبال مدنيين قلما يهم ساعة وصولهم ضفة الأمان، قدر الماء. تتلقفه الأيدي تلقفها الأمان. الساتر هنا كاف ليقيك رصاص داعش لكنه دون سقف يصد قذائف المورتر، ورشاشات أربع من عيار كبير لاستهداف ومشاغلة مسلحي داعش، يشكل سقفاً نارياً واقياً للعوائل الهاربة. هنا ثمة من أسندت له مهمة استقبال الهاربين وإجراء مسح أمني سريع قبل نقلهم إلى باصات لا تنقلهم سوى لأقل من كيلومتر في آخر صف عسكري للحشد الشعبي.
ليس كل ما يهب مع رياح الجبهة يحمل أخباراً جيدة. عوائل ونساء يبكين، بعضها يبكي فرحاً بعدما أفلت من هيمنة داعش وبعضها ألماً لفقد أحد أفراد سواء في فترة مضت أو أثناء الهروب، وشريط ذكرياتها يزامنها. ما آلمنا خبر سقوط مقاتل يتبع تشكيلاً لأحد الفصائل العراقية قنصاً أثناء سحب آخر مدني صوب القوات العراقية، لا نعرف المقاتل ولم نشاهده قبلاً ولا بعد الحادث، لكن إحداهن كانت تولول ألماً. معرفتها بالمقاتل لم تمتد لدقائق معدودة، صافحها إنقاذاً.
يُستقبل الهاربون فيطلب منهم استراحة سريعة فتطأ أقدامهم سجاداً مفروشاً بعد كيلومترات من السير على التراب. تنقل بعدها العوائل إلى ما يفترض أنه مكان للنازحين. دفعنا الفضول إلى إكمال المشوار للوصول إلى امرأتين اثنتين اعتقلتا. طلبنا ذلك من المسؤول الأمني الذي سبق أن وعدنا عبر رسالة نصية كتب فيها "تفضلوا هناك صيد داعشي".

تحركنا بسيارة تعطّل مكيّف الهواء فيها وبتنا لا نشعر بحرارة الطقس ولا بالطرقات الممهورة بتفجيرات سابقاً، عموما لم يهتم الجميع وتركيزهم كان على غرفة الأسرار في مبنى نجهل موقعه الجغرافي. هدفهم اللحاق سريعاً على أمل اللقاء بالصيد، أو معرفة القيمة.
كل شيء ساخن هنا، الهواء ساخن ومقابض السيارة ومسجل الصوت وحتى من تصافحهم أو تتبادل معهم الاحتضان ترحيباً كما هي عادات أهل العراق، تشعر خلال ذلك بلفحة الحر. أما وقد أسندت لك مهمة قيادة السيارة، فأنت في مهمة صعبة. لكن الأخبار أسخن من الجبهة والصيد أثمن من أن نفوّت فرصة للوقوف عليه ولا خيار إلا الانتظار.
فيما كنا نشوّق أنفسنا ونبحر في تحليل المتوقع، كانت الاستخبارات العسكرية وغرفة العمليات المشتركة المسؤولة عن عمليات تحرير الفلوجة تُحللّ صوراً وردتها من مصدر استخباراتي بشري داخل الفلوجة وفق معطيات ومعلومات رياضية تمنح الطائرات المسيرة والتي ترصد حركة مسلحي التنظيم كما الفيلم السينمائي. بقيت الطائرات ترصد من استبدل زيه العسكري من مسلحي داعش ومن جهز نفسه لأن ينتقل إلى عالم آخر يكون فيه المسلح مدنياً بل قد يبحر قليلاً في عالم أمني فيستحيل إلى قالب امرأة، ولم يكن المصدر البشري على الأرض هنا سوى النحلة.
ليس خرقاً أمنياً لداعش هو ما حصل على يد جهاز مكافحة الإرهاب ومتطوع عراقي من أبناء الفلوجة، بل هو إنجاز أمني استخباراتي بامتياز. شاب قصير سمرته حمراء وجبهته طالما غامرت بين فوهات سلاح داعش، وعيون بدوية تحمل ذكاء وتعرجات. تفاصيل وجهه لا علاقة للسن بها قدر اتصالها بمأساة العيش في مناطق سيطرة داعش في الفلوجة وما تولده من قلق لا يخبره إلا من عاش شرق الأنبار. اهتمام المحيط من رجالات تطوع الرجل للتواصل معها يشي بأنه ليس هيناً أبداً، وأن صيده اليوم يحمل الرقم 4. تساءلنا عن دور الرجل واسمه وسنه ومهمته ومدتها ومسؤوله المباشر فلم نتحصل إلا على إجابة واحدة باردة. هو متطوع لهذه المهمة يستدرك من يخبرنا ضاحكاً، ليس بالمجان طبعاً، مضيفاً مهمته اليوم مكنت الأجهزة الأمنية من ملاحقة أبرز مسلحي داعش من العراقيين وآخر جنسيته عربية تاجر بنساء عراقيات في مناطق استباحها داعش. كان محدثنا يتمتم الخبر بالتقسيط وتزيد بحة صوته من أهمية ما يخصنا به من معلومات في آخر ممر المبنى العسكري.

أين صيد الرجل النحلة؟ متى كانت المهمة؟ خلاصة أفكار عدة وتعدد أسئلة تجول في رأسنا لحظة الحدث وتفكير سريع لتدوين أبسط التفاصيل كي لا تفوتنا شاردة تشكل مفصلاً في حادثة كبيرة تحقق فيها الأجهزة الأمنية العراقية كسباً ليس سهلاً في خضم جو من حرب الأعصاب.
صيد الرجل مسلحان تنكرا بزي امرأتين لكأنهما من النازحين في عملية ناظم المفتول شمال الفلوجة. أين تمت المهمة وكيف؟ تمت بعدما حدد موقع النحلة الذي رافقهما وفقاً لإحداثيات اتفق على وقت بثها مسبقاً عبر موجة لاسلكي خرقت شيفرتها من قبل أحد فصائل المقاومة العراقية الذي قدم بدوره المعلومة هدية لجهاز أمني مهم. مررها الأخير إلى من نفذ عملية التصوير. فتمت عملية إلقاء القبض بإشارة بسيطة من النحلة .
كان لقاء النحلة بمسؤوليه ومضيفيه مليئاً بالحفاوة. مات قلب الرجل، يتحرك بلا مشاعر. لم يذكر خوفاً عاشه خلال تعامله اليومي مع مسلحي التنظيم ولا خلال أول عملية نفذها انتهت باعتقال أحد مسؤولي الحسبة في الأنبار.
كيف انتقلت مع مسلحي داعش وهم متنكرون بزي نساء؟ أجاب بوضوح "لقد تأمّن جانبا العملية. تحركت من ضفة يسيطر عليها التنظيم مع مسلحين قرروا الهروب إلى ضفة وحدتي التي انتسبت اليها دون أن أعمل بدوام رسمي". ألا تقلق من أي تفاصيل تحيط بمهمتك قد تكشف شخصك؟ لا. كثيرون من ألقي القبض عليهم ومن مختلف الجنسيات، وقلما تجد أنبارياً لا يحمل حمرة شمس الصحراء أو سمرتها. مع ذلك فإنني غادرت الفلوجة. وموعدي في أرض أخرى وموسم جديد كما النحل.

المصدر: الميادين