السبت: 18/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

"رحلة إلى العريش"

نشر بتاريخ: 27/01/2008 ( آخر تحديث: 27/01/2008 الساعة: 12:34 )
غزة- معا- في العريش.. كما لم تشرق الشمس صباحها بهذه الحرية المغموسة بلون الفقر والهم.. والطريق السوداء أصبحت طويلة للغاية بنظر من استلّ حقائبه الفارغة من الحاجيات للذهاب إلى العريش للتسوق.. وفي رواية أخرى " لسد حاجة الحصار".

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحاً .. رجال الأمن المصريون ينتشرون بلا نوم وبلا أكل وبلا سلاح، علّ العصيّ المزودة بالكهرباء التي اعتاد عليها الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي أصبحت هيَ الحل الوحيد لشعب ذاق الويلات وعانى الأمرّين على مدار العقود والأزمان.

أطفال بلا ضحكة بريئة يفترشون الأرضَ ينتظرون الذهاب لشراء حاجياتهم الصغيرة ، وكأن العريش أصبحت " كتكبيرة العيد عند الصباح " كلما سمعوا اسمها ضحكوا وفرحوا وراحوا يركضون دون أن يعرفوا مصيرهم النهائي وسط الحصار .. أما الشباب المتلهفون للذهاب للعريش وكأنهم ذاهبون إلى باريس تناولوا النكات والضحكات الساخرة، فمنهم من رثت ثيابه بفعل المشي وآخرون من صنعوا لأنفسهم طريقاً بعيداً عن الزحام .. تماماً كما عانى التجار من نساء غزة " بخصام الأسعار "، لحين أن شعرنا أنهنّ لو أردنَ السلع الغذائية والتموينية دون مقابل لما وفرّن ذلك.

انتفاضة الزحام الغزيّة التي قادها عشاق الحرية لم تنتهي بانتهاء المواد التموينية أو السلع الغذائيّة ، فالفلسطينيون باتوا أكثر حاجةً لشمس غير شمس غزة ، وماءٍ على ماءها ، وتراب غير ترابها ، حتى وجوه غير وجوهها .. لكنهم لم يفلحوا كما قال وسام مرتجى من منطقة الزيتون ، لأنّ غزةَ ومن فيها انتقلت للعيش في العريش .. فأصبحوا متشابهون بكلّ شيء إلا " البيوت " ، لأنها غير بيوتهم ، فإما أن يناموا فوق الأرصفة أو إما أن يتسامروا في الأسواق حتى الصباح ، أو يعودوا أدراجهم للون الحصار الذي أصبح بلا حصار.

تماماً عندما اندهش محمد الشافعي من منطقة النصيرات وراح يشير بإصبع السبابة من يده اليمنى بلهفة اتجاه نور إحدى اللمبات في المحال التجارية عندما اشتعلت وقال بشوق " الكهربا اجت "، وسرعان ما لكمه أحد الشباب الغزيين على كتفه ممازحاً وقال " ما بدك تطلع من جو غزة الممل ".

المسكين محمد الشافعي .. لقد نال غياب الكهرباء عنه في غزة .. ما جعله يحلم بها في العريش .. وفي وضح النهار .

وعند مرورنا في إحدى شوارع العريش تفاجئنا بصالونات الحلاقة قد امتلأت عن بكرة أبيها فأصبحت كالحصار .. نظرنا بغرابة وعيوننا تأكلها التساؤلات .. هل انقرض حلاقو غزة ؟ أم أن القصّات الشبابية الجديدة لم تعد في غزة بفعل التجويع وإغلاق المعابر ؟ ، فيما رجّح أحد الأصدقاء بأنه لربما أغلق الحلاقون محالهم وذهبوا كغيرهم لرحلة العريش.

كلّ هذهِ التساؤلات أجاب عنها أحمد الريخاوي من مدينة رفح فقال بسخرية " أي خلونا نغير جو ، زماااان ما حسيت بهادي النعنشة " .. ضحكنا على إجابته ورحنا نسير ونحن في حيرة من أمرنا ، ماذا أصاب شعب غزة ؟.

الشوارع تبدو محتفلة .. كل هذه الجماهير الغزية التي تواجدت كانت تبحث عن ثمّة حرية مطلقة تتحدى خلالها ظلم الحصار .. فالإنسانية وبكل لغاتها لم ولن تحتمل هذا العدد الهائل من الفلسطينيون الذين حضروا لمواكبة انتصار الكهرباء على الحصار .. فأدمعت وراحت تندي بكلماتها الشعرية .. علّ أسياد الأمم المتحدة وحكام العرب والمسلمين ومجلس الأمن والشعوب أن يحركوا ساكناً أمام عبور غزة إلى المجهول .. ونوم سكانها في الظلام ..

فرحلتنا هذه أثبتت أن العريش عروس الاقتصاد الأولى في العالم .. بينما الفلسطنينون المندفعون لم يدركوا حجم كارثة ما بعد العريش .. هل سيترك الرئيس مبارك الأبواب مفتوحة لهم دائماً .. أم أنّ المسلحين سيستمرون بتفجير الجدار لإحياء الزحف الغزاوي من جديد .. أم أننا سنعود لنصلي صلاة الانتصار رافعين أيادينا لله تعالى بأن يفكّ الحصار ويخفف عن أهل غزة معاناتهم.

" أم بلال " .. هكذا عرفت لنا سيدة مصرية نفسها .. لربما لم تصدق كل هذا الزحف الغزي الغريب .. لكنها باتت تدرك أن ثمّة جرح يؤلم غزة جعلها تمضي بهذه الأعداد التي فاقت بكثير كل حدود الوجع .. فقالت لنا والتنهيدة كادت أن تتحول إلى دمعاً " لم يتبقَّ شيء .. لقد أخذ الفلسطينيون كل أمتعة وأغراض أسواق العريش .. حتى أطقم النوم لم تعد متوفرة هنا "

وسرعان ما اتجهت أنظارنا إلى بعض شباب يستمعون لأغانٍ وطنية كنّا قد سمعناها في غزة كثيراً .. لقد كانوا يجوبون أسواق العريش وهواتفهم النقالة تصدح طرباً بأغاني حركة فتح .. فابتسم أحدنا وقال لهم " احذروا .. التنفيذية هنا " .

الأسواق ضيقة ومتزاحمة .. وصوت الباعة والضجيج طغى تماماً على صوت الحصار فقط " بشيكل .. أو بجنيه .. وبعض الأحيان دولاراً " ، الناس يجوبون لا يعرفون ماذا يريدون على وجه الخصوص .. لكنهم كلما وجدوا سلعة يقل سعرها عن أسعار غزة قاموا بشرائها حتى وإن كانت شبشب " أكرمكم الله " .. البنايات العالية في العريش لم تخلو قط من سكانها المصريون .. لربما باتوا في غرابة مما يحدث .. فتركوا التلفاز وأعمالهم وأجهزتهم وكل ما يخصهم واستمروا لفترات طويلة يتابعون عن كثب عبر نوافذ البيوت والبرندات تحركات الشعب الغزي المجنون الذي نال من كلّ شيء .. كلّ شيء ..

فالبهائم والخِراف، والجِمال، وأطقم النوم، والدراجات النارية، والزيت، وحتى الصحون والملاعق.. أصبحت جميعها وسائل جديدة يتحدى بها الشعب المكلوم ظلم الحصار.. بينما حكام العالم لا زالوا يفيقون من غيبوبة الشياطين التي أرقصتهم مذلةً وهواناً يوم أن حاصر الغرباء حدود غزة.. وأصبحت الكرامة لديهم بلا ثمن.

فيا ترى .. متى سيزول الظلام الذي حلّ على غزتنا من وسط الجريمة؟.