الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ما تعلَّمتُه من الرّوح الحُرّة

نشر بتاريخ: 04/09/2019 ( آخر تحديث: 04/09/2019 الساعة: 12:13 )
ما تعلَّمتُه من الرّوح الحُرّة
بقلم: دنيا الطيِّب‏
الوطن والتعليم والثقافة في أدبيّات الدكتورة وداد البرغوثي.
سنتناول اليوم مفاهيم مختلفة مهمّة تطرقت اليها الدكتورة في رواياتها (تل الحكايا، الوجوه الأخرى، حارةالبيادر، ذاكرة لا تخون وغيرها من الروايات والأشعار..) وكقارئة نهمة لأعمالها -التي تمكنت من الحصول عليها - عثرت على مفاهيم ركّزت عليها في أعمالها وسردتها بطرقٍ مختلفةٍ ضاربةً شتى الأمثال في محاولةٍ لتوضيحها. ومن هذه الأفكار والمفاهيم: قوّةالكلمة، الحرّية والوطن، أهمية التعليم والثقافة .
سأبدأ بقوّة الكلمة لأنَّها الأساس، فمن يقرأ أعمالها يرى أنَّها سردت حكايات الشَّعب في حقبٍ زمنيةٍ مختلفةٍ مستعينةً بقوّة الكلمة، فالكلمة هي البداية، ما تكتبه على الورق لا يموت، أوَّل الدروس التي تعلَّمتها منها هو كيف يؤثِّر قلمي في إيصال معاناتنا كشعب، كيف على المرء ألّا يستهين بما يكتبه. يكمن دورك كفلسطيني أن تقاوِم بما استطعت، ودور الكلمة ليس بأقلّ من دور السّلاح، فكتاباتها تناولت سيراً ذاتيةً وغيريّة سخَّرتها في سرد التاريخ، ومن قريتها الصغيرة المليئة بأشجار اللوز والزيتون حاولت زرع بذورٍ في أفئدة كلّ من يقرأ رواياتها، أعي بأنَّ الفؤاد لايُسمّى فؤاداً إلا اذا عشِق، فكلّ قلبٍ يقرأ ما كتبته يقع في حبّ أفكارها الحرّة ويزداد تعلّقاً بالماضي، الذي لطالما نظرَت اليه بحنينٍ مستمرّ. لذا علينا أن نثق دائماً بالأساليب المتعددة للمقاومة دون أن نقلِّل من شأنها أو نفضِّل بعضها على الآخر.
ثانياً: الحرّية والوطن.
في سيرتها الذاتيّة(تلّ الحكايا) تروي أولى صِداماتها مع الحرّية، حين ذهبت لزيارة والدها في السجن للمرّة الأولى وكانت طفلةً وقتذاك حتى سفرها الى روسيا لاستكمال تعليمها الجامعي.حاوَل الاحتلال الضَّغط على والدها في السجن ليعترف من خلال عائلته، مستخدماً نجاة (البطلة) كضحيّةٍ لا تعي شيئاً، الطفلة التي وُلدت دون أن ترى والدها، حين جاء الى الغرفة محاطاً بجنديَّين اسرائيليَّين لم تعرفه، وجلست في حضن الجندي معتقدةً بأنّه والدها وانتزع من جيب قميصه قلماً أعطاها إياه لتخربش به على ورقةٍ تناولها من الطاولة، وعلَّق ساخراً من والدها (أترى، حتى ابنتك أنكرتك). كانت العائلة كلّها حاضرةً هناك ونجاة بعمرها الغضّ لم تكن تعي بعد أيَّ شيءٍ عن والدها، أو الحرّية التي تسبب بحثه المستمرّ عنها وقتاله من أجلها. حتى حين أُفرج عنه لم تتعامل معه كأبٍ وظلَّت تراقبه باستغرابٍ وهو يتنقّل في المنزل. لطالما بدت الحرّية بالنسبة لطفلةٍ مثلها أن تركَب في الباص وأن تشتري ملابس جديدة لزيارة والدها، فقد وصفتتلك الزيارة بالعيد لأنَّها ترتدي فيها كلَّ شيءٍ جديد (لم يكن في القرى سيارات خاصة بل الباصات التي ينتقلون بها الى باقي المدن) بمرور الزَّمن عرفت نجاة كلَّ شيءٍ حتى أنَّها أصبحت تنادي بالقِيم والأفكار التي ينادي بها والدها الذي أُسِر عدّة مرّات كما أُسرت نجاة، لتصبح الحرّية بالنسبة لها مرتبطةً بالاحتلال فلا تتحقَّق الا بزواله، على العكس من الوطن الذي لا يزول تحت أيِّ ظرفٍ كان.
ما يجعل حكايةً كهذه لاتُنسى هو استخدامها المُتقن لمرحلة الطفولة وما رافقها من تشبيهاتٍ واضطراباتٍ، فتجربة الطفولة وان اختلفت ببعض الظروف تظلُّ مشابهةً من نواحٍ نفسيةٍ وأفعالٍ لايقوم بها إلا الأطفال.
ثالثاً: أهمّية التعليم والثقافة.
كان التعليم حاضراً دائماً كجيشٍ يحتمي به المرء، وسواء في خطاباتها أو في أعمالها فقد خصَّصت دائماً فقرةً تحكي عنه وتوثّق أهميته، ففي كتابها (الوجوه الأخرى) شرحت حالة المناضل الفلسطيني الذي لم ينل قسطاً كافياً من التعليم وما ترتَّب على ذلك من عواقب أشدّها وآخرها الخيانة، للشعب والأرض والهواء كما سبق أن ذكرت في مراجعةٍ لهذا العمل. وفي روايتها (تل الحكايا) تروي عن سعيد الفلاح ونجاة، سعيد الذي أصرَّ على أن تُكمل ابنته تعليمها وحرص على تثقيفها بترشيح كتبٍ وأعمالٍ ثوريةٍ وأدبيةٍ تحاكي الواقع الفلسطيني وتزرع في المرء الهمّة والقوّة لمواجهة الاحتلال، وهنا نراقب أهميّة التعليم والثقافة في صنع المناضل الثوري، فليثور المرء عليه أن يعرف على من سيثور ولماذا وبالنسبة لنجاة وسعيد الفلاح كان الكفاح المسلَّح الطريق الأكثر استقامة مفضّلين السجن والموت على الاعتراف أو الهجرة. فسعيد الفلاح الذي عايش النكبة رفض الرحيل وسط تخبّط البعض وخوفهم من الشائعات، وهذا إن كان يدل على شيءٍ فهو القَهر والتخلّف الذي استغلّه الاحتلال لصالحه في تلك الحقبة، ولا زال يستخدمه كسلاح. والانسان المقهور يستخدم أكثر هويّاته ضعفاً ويحاول باستمرار اسقاط قهره على من هم حوله كمحاولةٍ منه لردّ اعتباره وسلطته المفقودة. على سبيل المثال رفض العائلة والمجتمع وقتذاك سفر نجاة الى روسيا لإكمال تعليمها معتبرين سفرها مجرَّد تبذيرٍ للمال وتجربة لن تبوء إلا بالفشل والخسارة. جديرٌ بالذِّكر أنَّ مكانة المرأة في مجتمعٍ ما هي أقوى دليلٍ على تقدّمه أو تخلُّفه ويمكننا أن نرى بوضوحٍ في أيّ صنفٍ يقع مجتمعنا، وحتى اليوم.
ركزت الدكتورة أيضاً على حالة الثوّار وقتذاك مقارنةً بالأعمال الثورية في زمننا، ويمكن للقارئ أن يقارن بين الثوري في الماضي والثوري في هذه الأيام، حتى في أكثر الحالات تفاؤلاً سيشعر بامتعاضٍ شديد إزاء الوضع الراهن. فالفرق بين العصرين أنَّ الفكرة كانت أكبر والمفهوم أعمق. ففي الماضي لم يكن النضال قطرياً ولا اقليمياً بل كان هناك فهم لطبيعة الصراع والعدوّ، كان هناك ايديولوجيات تحدد معالم العمل الثوري وتمنحه أدواته. وللأسف في التسعينيات تعطَّل المشروع التحرري الوطني الفلسطيني وهيمن على الفلسطيني الحالي التذمر واجتذاب أكثر الهويات بشاعة، ولم يعد الوعي بالأهمية الثورية كما السابق، فالوعي حصنٌ منيعٌ أمام الهزيمة. وهذا ما نستنتجه من قراءة تل الحكايا، الحقبة التي كان فيها الكفاح المسلَّح في أوجه والعملية الثورية ناجحةوواعية.
وفي الختام للتعليم والثقافة أهميّة كبيرة في تشكيل وعي الفلسطيني بالقضيّة ودفعه الى التحرر كون التحرر يبدأ أوّلاً من الوعي بطبيعة المرحلة والأدوات الموجودة التي تساهم في إنجاح مشروع التحرر. وتؤكد البرغوثي أنَّ الانتفاضة مستمرّة، وأنَّ كلّ ما يقوم به الفلسطيني من محاولاتٍ للعيش توثّق استمراريتها وتبرهن على أنَّ التعايش مع المحتلّ لن يكون إلا حلماً كالبالون، مصيره الوحيد هو أن يطير.
يأتي هذا النَّص في سياق الرَّد على اعتقال الدكتورة المحاضِرة في جامعة بيرزيت وداد البرغوثي المُعتقلة بتاريخ 1 أيلول 2019 من منزلها في قرية كوبر قضاء رام الله الدكتورة التي قدَّمت الكثير للطَّلبة في تخصص الاعلام من جهة، وللفلسطيني ككلّ من خلال أعمالها الأدبيّة، التي وثَّقت حكايات النضال والكِفاح والتي ملأت العالم بالحكايا وقصص البطولة أصبحت اليوم هي البطلة.