الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

طائرُ القُبّرة يُهاجرُ جبلَه إلى الأبد

نشر بتاريخ: 29/06/2015 ( آخر تحديث: 29/06/2015 الساعة: 10:03 )

الكاتب: عطا الله شاهين

أجملُ النّظرات هي التي تطيرُ بروحكَ في تكبُّرٍ وتُراوغ لُبّكَ في حُزْنٍ .. نظرات لا ندركُها ولا نتأثّرُ بها إلّا بعد مُرُورِ الوقْتِ المطْلُوبِ .. وأروعُ الترقُّب هو ذلك الذي ينتظرُ فيه مخلوقاً لا تدركُه في موعدٍ قادمٍ …

في موعدٍ قادمٍ سأظلُّ وقتا أطول .. هذا ما تمتمتُه لذاتي وأنا أُلملمُ أمتعتي البالية كيْ أُغادرَ منزلي وأرحلُ لأركبَ الحافلة إلى القرية التي أعشقُها .. كانتْ خطواتي حائِرة ، ثقيلة .. لقدْ أمضيتُ أيّاماً بجانبِ امرأتي التي أفعمتها البهجة رغم إبْطاء خُطاها التي ظلّتْ تخطُّ في الزّقاقِ مع كُلِّ حركةٍ أصواتا مِنَ البهجة شاحبة كالسّنين ، صارخة كرائحةِ أرضِ الجبل بعد نُزولِ الرّذاذ. 

بقيتُ للحظاتٍ فقطْ وصديقي المُخلص ينتظرُني بسيّارةِ السّيرفيس القديمة في الخارج حين حملتُ شنطتي المُمزّقة وهممتُ بالخروج بعد أن ودَّعتُ امرأتي عندما شرعتُ في اجتيازِ عتبة الباب شعرتُ بنظراتٍ تجذبُني إلى الحيّز.. نظرات تلدغُ كتفي ، تسمرّتُ والتفتُّ إلى الخلفِ ، كانتْ امرأتي لا تزال تُودّعني وتودّعني بنظراتٍ صاخبة هادئة.. نظراتٍ عميقة صافية بعينيْ طائر قُبّرة ، كانت قدْ نقشت صُورتها في مرآةِ عقلي بكلماتٍ احتضنتْ صِغري البعيد ، وقصصاً راقصتْ نعسي على سريري الخشبي المكسّر بفراشه النظيف في ليالي الخريف.. وحين انتبهتْ إلى تسمُّري أعرضتْ تكرُّهاً بوجِها عنّي فارّة بنظراتِها إلى الفراغ .. هي المرّة الأُولى التي أعجزُ فيها عنْ فهمِ امرأتي .. لطالما فهمتها واحتضنتُ أفكارها حتى بعد أنْ هربتْ بتكبُّرِها إلى السُّكوت .. 

كانتْ سريرتي المكتومة منذُ الصِغر فصُورتها دائما تُغطّي المُزن في سمائي ، صُورة القُبّرة العظيمة بعيونٍ ثاقبةٍ ومنقارٍ متكبّر وأجنحة تخطّ لون السّماء وتنحتُ جمَالَ الجبل.

في موعدٍ قادم سأسألها دون تردّد لأعي كُلَّ شيء ...لنْ أتركَ الدّهشة تلعبُ فيّ..
صُور القُبّرة كانتْ سريرتي الصّغيرة التي أخفيتها في رُوحي كمنامٍ ساخنٍ ، ولكنّها حين تمدّدتْ في أغوارِي كذكرى لاهبة بحتُ بها لأُمي التي ضحكتْ عليّ حينها وأمسكتْ خدّيّ الشّاحبيْن بيدها ثُمّ احتضنتْ مناماتي الصّغيرة بمقلتيْن برّاقتيْن .. ما زالَ بصرها مُعلَّقا بي كمنامِ ولدٍ ليلة الكرنفال .. فرجعتُ إليها ، احتضنتها ، ألهبتْ هي جِيدي بصلواتٍ صامتة وربتتْ على صدري بأيادٍ مُرتجفةٍ عطوفة .. هرعتُ إلى البابِ بعد ذلك أُخفي سُقوطي ورفعتُ شنطتي المُمزّقة وغادرتُ ، لمْ أردْ أنْ أرنو إليها مرة ثانية حتى لا تُشاهدُ وهني الذي طالما علّمتني أنْ أُمزّعه لأبدو عارماً كشجر السّرو عاتيا كزوبعة الخريف.. 

على طول الطّريقِ في سيّارةِ السّيرفيس القديمة حتى في الحافلةِ ظلّت تلك النظرات الغامضة تنثرُني بل تجعلُ الوهن يُشلّ لُبّي الأبكم .. سِحنتها البيضاء وهي ترنو صوبي ما زالت ماثلةً أمامي منقوشة بلْ معلَّقة على زُجاج النافذة المغبّرة ...تمشيطتها لمْ تروقني هذه المرة لطالما كانت تُمشّطُ رأسها دون النّظر إلى مياهِ البحر الصّافية .. كانتْ تفعلُ ذلك بكُلِّ خفّة .. أظنّها اعتادتْ على ذلك مِنْ أيّامِ اصطيادها للأسماك .. هذه المرّة لم تروقني تمشيطتها .. لذلك حملتُ معي مُشطها الآخر.. سأشتري لها فرشاةَ شعر جديدة .. حتى يظلّ ريشها ناعماً كما عرفته دائما ، حين رجعتُ إليها هذه المرة أحضرتُ لها معي قطعةً مِنْ قُماشٍ صوفيّ ثقيلٍ ليحميها من البردِ .. هذه المرّة لم تروقني لا تمشيطتها ولا نظراتها .. ما الذي كانتْ ترغبُ أنْ تُكلّمني به ؟ أحسست أنها كانتْ تصيحُ في صمتٍ صاخب .. تُرى ما الكلمات التي كانت تصطخب وراء حجاب تلك النظرات المولِعة ؟

أغلقتُ جفنيّ وقد كنتُ واثقا أنّها في الموعدِ القادم ستكون أروع
تذكّرتُ ما كانتْ تفعله من أجلي حينما كنتُ صغيرا وجاهلا : شدوها المسائي بلغة عربية مضحكة يرجّني لأستيقظ في المساءِ للذّهابِ إلى الحقل الذي يقع ليس بعيدا عن بيتنا .. يداها الخشنتان تزرعان البندورة والخضروات البعلية .. اعتاداها بظهرها المحني وهي تمد جناحيها لتقطف لي حبة مشمش من الشجرة الهرمة التي تقي ظهرَ بيتنا .. ضحكتُها النّاصعة مساء الجمعة حين تراقصتْ بنانها كأسَ الشّاي مع أبي يرتشفانه في خشوعٍ عند فيء شجرةِ التُّوت الضّخمة .. طعمُ الحَبّ الذي تضعه في عبِّ خلَقِها كلما رجعتْ من عملِها مساءً .. صوتها يرتُّل آيات قرآنية مصلّيةً في دعة وهي منغمسة في عتمة الفجر.. كنتُ أعي نظراتها دون أن تتفوه بكلمةٍ واحدة .. المرّة الوحيدة التي كانَ يبتلعها فيها السُّكوت هو حين كانتْ توصّلني في هدوءٍ إلى مدرستي مشياً على الأقدام .. لقدْ أصبحتْ عاجزةً عن الطّيران كنتُ أشعرُ بفخرها بي وهي تراني آخر أولادها أكبر.. وأشعرُ بكربِها النّائم وهي ترى منزلها يفرغُ مِنْ أولادها وبناتها عاماً بعد آخر .. كلما حوّطها الفراغُ ازدادتْ عُزلةً وتيبستْ أجنحتها القويّة.. في الأعوامِ الأخيرة صارتْ أكثر سكوتاً وحكمةً ولكني كنتُ استوعبها حتى حين وقفتُ أمامها ذات مساءٍ ولمْ تنتبه لي واكتشفتُ لحظتها ضعفَ رؤيتها وتداخلتْ الصُّور أمامها فأخذتها مع صديقي إلى الطّبيب ليجتث زرقة كانت نائمة في عينيها ، حتى في تلك اللحظة كنت أفهما وأعلم أن أمرأتي أعتى من كل الآلام..

في موعدٍ قادمٍ سآخذها إلى طبيبٍ مختص ليعاينها بشكلٍ دقيق .. وسأظلُّ إلى جانبها زمناً أطول .. وستردُّ على كُلِّ استفساراتي وستكونُ أجمل بشعرٍ أبيضٍ ونظرة قريرة وسأحتضنها وأقول لها : 

أعشقكِ يا أجمل طائر يتربّعُ على عرش.
هذه المرة أحسستُني عاجزاً عن فهمِها .. رحلتُ.. وتركتُ القرية عاشقة الزيتون ، ولكنْ ذكريات طفولة روحي تركتها ناعسة تحتَ جناحيْها كالملائكة .. أمّا نشاطُ عقلي فقد خبا وازداد وهنه حتى حين راجعتُ في مُخيّلتي طلباتها الغامضة في الأيامِ الأخيرة قبل أنْ أغادرَ وذلك حين طلبتْ مني أنْ آخذها إلى الحقلِ على طرف القرية .. أخذتني الدّهشة وعجزَ عقلي عن الفهم.. 

في المرة القادمة .. سأسألها
لمَ كانتْ ترنو إليّ هكذا ؟ ومن كانتْ تترقّب ؟
بعد أسبوعٍ مِنْ مُغادرتي عنْ القرية ...سأفهمُ أنّ كُلَّ تلك الرُّدود كانتْ نائمة في التواءات رُوحي ولكنّ القضاء أرادَ أنْ يُغيّرني بكُلِّ السُّهولةِ مِنْ عاشقٍ شاعريٍّ إلى استهزاءٍ مرير .. بعد شهر سيجيء الرّد مِنْ صوتِ شقيقي الكبير عبر الموبايل تخنقُ ظنّي... كانَ حديثُها يحزّ روحي ويتركها يتيمة بلا أجنحة.
في ذلك المساء الخريفي البارد عرفتُ لمَ كان والدي يرنو إليّ بتلك الطّريقة وعلمتُ أيضا مَنْ كانتْ تنتظر .. علمتُ كل ذلك من كلماتِ أخي المُتحِّير المختنق.. فهمتُ ذلك حين قال لي بصوتٍ مُضطربٍ ..
شقيقي المُدلّل.. طائرُ القُبّرة هاجرَ جبلَه إلى الأبد

توقّفَ كل شيء في ثوان .. لمْ يبقَ سوى نحيب شقيقي يهزّ الموبايل في حُزن.. هاجتْ روحي كطائرٍ مقتولٍ وعقلي يسحبُني يصيحُ في الفراغ الذي جمّدني.. يصيح ويصرخ وينحبُ هامسا:
في الموعد القادم ... في الموعد القادم لنْ يكون هناك موعدٌ قادم