الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الربيع العربي.. هل من أمل باسترداد الأهداف؟

نشر بتاريخ: 09/09/2018 ( آخر تحديث: 09/09/2018 الساعة: 12:38 )

الكاتب: ناصر دمج

اعجبتني الاستنتاجات التي أوردها د. إبراهيم حمامي، في معرض تقييمه لنتائج ثورات الربيع العربي ومنها إنه: "لا يمكن بحال الحكم على الثورات العربية بمقياس رجعي بناء على نتائج اليوم، بمعنى أن نحكم على انطلاقتها قبل سنوات بما آلت إليه الأمور اليوم، من قفز عليها وحرف لها وتشويه وتآمر". و " والطعن في دوافع وأسباب ثورة الشعوب العربية في أكثر من مكان على أنظمة الاستبداد والطغيان، لينسبها إلى جهات خارجية دفعت باتجاه الفوضى والاقتتال". (المصدر - إبراهيم حمامي، مدير مركز الشؤون الفلسطينية، إنصافا للثورات العربية، 2 أيلول 2018م)
وأضاف "بصرف النظر عن ما آلت إليه نتائج تلك الثورات وكل على حدة لكنها وفقاً لحمامي "نجحت في تحريك المياه الراكدة، وحققت نجاحات واضحة وحقيقية، هرب بن علي من تونس وكانت الانتخابات الأولى، وتنحى مبارك وسُجن، وسقط القذافي وجرت أولى الانتخابات بدستور مؤقت، واضطر علي صالح في اليمن للتنازل لنائبه، واستعاد الشعب السوري أكثر من 80% من أراضيه من براثن الأسد". (المصدر - إبراهيم حمامي، مدير مركز الشؤون الفلسطينية، إنصافا للثورات العربية، 2 أيلول 2018م)
عودة على بدء، قبل ذلك ومن بعده، استبشرت الأمة خيراً بتمكن بعض الشعوب العربية من الوصول إلى مرحلة صناعة التغيير بقوتها الكاسحة والتي تفوق أي قوة مادية أخرى، لكن التباس المراحل الانتقالية أوصل بعض ثورات الربيع العربي إلى ما يشبه الحريق الوطني الداخلي، وذلك بسبب اختلاف الشركاء الثوريون في تصورهم لإدارة المرحلة الانتقالية وتقاسم السلطة، ولكي نتمكن من الإلمام بما يحدث سأتناول في هذا الفصل (معضلة تعثر مساعي النهضة العربية) تجربة الثورة المصرية لإخضاعها للدراسة بهدف الاستدلال على احتمالات النجاح الكامنة داخلها مستقبلاً من عدمها، لأن الثورة المصرية من وجهة نظري تشكل نموذجاً صالحاً للقياس عليه لاستشراف آفاق هذه المرحلة من عمر الأمة، فإن تمكنت الثورة المصرية من تجاوز مشكلاتها وعبرت إلى السنوات القادمة بنجاح فإنه يمكننا الاستبشار خيراً بمستقبل غيرها من الثورات العربية، وستنجح من بعدها الثورات العربية التي عرفناها حتى نهاية عام 2014م، وتلك التي لم تنفجر بعد.
إلى ذلك اختلف المتابعون والمراقبون للشأن المصري على - سبيل المثال لا الحصر - في وصف ما يدور فوق التراب المصري من أحداث؛ فمنهم من وصفه بأنه ثورة على المستبد الوطني، وآخرون قالوا إن ما حدث بعد فوز جماعة الإخوان المسلمين بأغلبية مقاعد البرلمان وكرسي الرئاسة سرقة للثورة، وأصبحت الثورة بعد ذلك بحاجة لإنقاذ ولا مانع من خلال ثورة جديدة، والإخوان قالوا إنهم سيواجهون الثورة المضادة، وقالوا إن ما قام به الجيش هو انقلاب عسكري كامل الأركان ضد الرئيس المنتخب، وإن الثورة تتعرض للاستلاب والسرقة من قبل فلول النظام السابق وأعوان الإمبريالية في مصر.
وأحدث كل ذلك مقداراً عظيماً من الاكتئاب في نفوس المتابعين له عن بعد وعن قرب، وأصبح حجم القلق على مصر أكبر من حجم الأمل في نجاتها من جحيم المرحلة الانتقالية المثخنة بالعنف الداخلي.
رغم ذلك أرى أن الثورة المصرية في نهاية مدارها الذي طالت دورته؛ ستؤول لصالح الشعب المصري والأمة العربية، وبيد المصريين الآن شيء يشبه صمام الأمان الوطني وهو تمكنهم من كسر قيودهم القديمة وتحولهم إلى صناع للأحداث ومقررين لخواتيمها، وإن بدا هذا الدور غير مكتمل لغاية الآن؛ لأن الشعب المصري ما زال في طور الخروج من الحفرة التي دفنه فيها نظام الرئيس السابق "حسني مبارك"، فما زالت عيناه مليئة بالتراب والرؤيا أمامه غير واضحة، ولكنها ستتضح حتماً عما قريب، وستنحاز أغلبيته الساحقة إلى جانب الصالح والنافع الوطني والقومي دون مواربة، وسينخرط الشعب المصري في أتون عملية ديمقراطية سليمة ومعافاة من كل علة؛ لأن ممارسة الديمقراطية على أصولها هو موضوع تراكمي وتجريبي من قبل الشعوب المتطلعة للمدنية، لهذا السبب نرى نضوجًا متفاوتًا في الأداء الديمقراطي ما بين شعب وآخر وأمة وأخرى، وذلك تبعاً لعراقة الوسيلة كمنهج وطريقة حياة مختارة ومتفق عليها.
ولأن الشعب المصري قاد المنطقة العربية إلى صناعة تحول تاريخي حاسم ومن نوع فريد قوامه صناعة التغيير بواسطة قوة الشعوب الكاسحة، وتكاد تكون هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا التحول في العالم بعد الثورة الفرنسية التي ابتدأت في عام 1789م، وانتهت تقريباً في عام 1799م، والثورتين البلشفية في روسيا عام 1917م، والإيرانية عام 1979م، لذا فإن القوى والنظم التي لم تدرك بعد مثل هذا البعد في ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن، وما هو المطلوب منها تجاه شعوبها فإنها مرشحة للعزل بقوة الجماهير ومغادرة التاريخ بأبشع الطرق، وسيكون بعد ذلك اليوم 25 كانون الثاني 2011م، صفات وسمات جديدة للشخصية العربية الموحدة بالهموم والعذابات وبسبل الانعتاق والخلاص من المستبد الوطني، وستكون ثورات الشعوب العربية وفي مقدمتها المصرية عملاً بطولياً يعول عليه ويعتد به من قبل باقي شعوب الأرض، وحدثاً فاصلاً بين عهدين مختلفين في تاريخ الأمة العربية المعاصر.

إذن، سينعم الشعب المصري طال الزمن أم قصر؛ بحرية كاملة الأركان والمعاني بعد تمكنه من إزاحة الطبقات السميكة من الظلم والاستبداد الذي جوعه وخوفه، ودمر نسيج وحدته الاجتماعية، وبدد ثرواته الاقتصادية، وأنبت في تربته الاجتماعية أمراضًا وقيمًا مدمرة ساعدت في انزلاقه إلى هذا المستوى من العبث بعد فشل برامج الرعاية الاجتماعية، والصحية، والتنموية، والسكن، وتنظيم الأسرة، فأورث كل ما ذكر المجتمع المصري أمراضًا معروفة وأخرى كامنة أتيحت لها مرة واحدة فرصة التعبير عن وجودها بقوة بعد 25 كانون الثاني 2011م، بعد أن تحقق للثورة أول أهدافها الوطنية وهو خلع المستبد الوطني.

بعد ذلك تواصلت الاحتجاجات الجماهيرية بطريقة غريبة، وكأنه لم يتغير أي شيء في البلد لدرجة أن المظاهرات أصبحت تشكل قيداً حول يد الحاكم الجديد، فأسقط ثوار ميدان التحرير أول حكومة كان رئيسها أحد رموز ميدان التحرير (عصام شرف)، وبعده أيضاً تواصلت المظاهرات وازدادت ضراوتها تحت شعار "أن الثورة تتعرض للسرقة من قبل الجماعات الإسلامية"، وهذه الجماعات رفعت بدورها نفس الشعار واتهمت فلول النظام القديم ومعه آخرين بأنهم يحاولون العودة إلى سدة الحكم، وكلا الجانبين الثوريين استعمل الميدان للتعبير عن وجهة نظره، وبات المشهد العام للشارع المصري أقرب ما يكون إلى ورشة نقاش غوغائية مدمرة تحت شعارات ظاهرها الحق وباطنها العذاب، من قبيل أن التظاهر السلمي حق مقدس لا يجوز المساس به. وفي وصف هذه الحالة قال السيد ياسين: "إن بعض المليونيات والمظاهرات الحاشدة التي انطلقت إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين هي في الواقع مظاهرات غوغائية، بالرغم من أن عدداً منها اتشح زوراً وبهتاناً بأردية الثورة المتألقة". (المصدر- السيد ياسين، الديمقراطية والفوضى، جريدة الوطن المصرية، السبت 1 ايلول 2012م)

وهي أحداث ووقائع تشبه إلى حد التطابق وقائع الثورة الفرنسية ويوماتها التي تواصلت على مدار عشرة أعوام ونيّف، وهنا تبدو الحاجة ملحة لمقارنة الثورة المصرية بأقرب مثيل لها في التاريخ وهو الثورة الفرنسية؛ بهدف الوصول إلى استخلاصات من الممكن أن تساعدنا في قراءة مستقبل الثورة المصرية.

هل من مثيل في التاريخ لما يحدث في مصر؟
نعم، هناك مثيل لما يحدث في مصر الآن وهو ما حدث خلال الثورة الفرنسية (1789- 1799م)، التي بدأت باحتجاجات جماهيرية متصاعدة تشبه احتجاجات الجماهير المصرية واعتصاماتها منذ بداية القرن الحالي، وانتهت يوم 25 كانون الأول 2011م إلى ثورة شعبية سلمية أطاحت الرئيس مبارك من مكانه، وتزاملت كلا الثورتين - الفرنسية والمصرية - في تشابه أسباب خروج الجماهير إلى الميادين، وهي أسباب اقتصادية واجتماعية تصدرها الفقر، والجوع، وسوء التغذية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية والمحاصيل الأخرى، وفي مقدمتها الخبز، والاستياء من الامتيازات الممنوحة للإقطاع وطبقة النبلاء وانحطاط نظام المواصلات، وفساد النظام الملكي، وارتفاع نسبة الدين العام، وإفلاس خزينة الدولة، فضلاً عن الأعباء الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على ذلك، وفي مقدمتها ارتفاع الضرائب، وإفلاس قطاعات الإنتاج المحلية المشغلة للأيدي العاملة في مختلف أنحاء فرنسا.

وكان الفقر، والجوع، والبطالة، والرشوة، والمحسوبية، وبيع القطاع العام للمستثمرين الأجانب، وفساد جهاز الشرطة والقضاء، وانحطاط نظام المواصلات وفساده، وتعدد كوارثه البحرية والبرية، وعدم المبالاة الرسمية بالفئات الدنيا من أبناء المجتمع، وفساد النظام السياسي والاقتصادي المصري الذي أورث المجتمع المصري نوائبَ ومحنًا اجتماعية واقتصادية وأخلاقية عظمى، كل ذلك ولد رغبة جامحة ومتوحشة لدى عموم الشعب المصري في القضاء على الحكم المطلق الذي كان على وشك أن يتحول إلى نظام ملكي وراثي.
من خلال هذا العرض للأسباب المفجرة للثورتين سنرى بأنهما تقاسمتا أيضاً العديد من أوجه الشبه في حيثيات ويوميات المرحلة الانتقالية لكل منهما، وفي مقدمة هذه الأوجه عدم استقرار المجتمعين الفرنسي والمصري بعد الثورة لفترة غير قصيرة من الزمن، وسنلاحظ أوجه شبه أخرى بينهما في منتهى الأهمية.

أوجه الشبة والاختلاف
شهدت السنة الأولى (1789م) من الثورة الفرنسية، أحداثاً قوية وحاسمة سجلت في سفر الكفاح المشرف للشعب الفرنسي بعد اقتحام سجن الباستيل في 14 تموز 1789م، وصدور إعلان حقوق الإنسان والمواطنة في آب من العام نفسه، وتنظيم المسيرة الكبرى نحو قصر فرساي في تشرين الأول من العام نفسه أيضاً، وإلغاء النظام الملكي في 21 أيلول 1792م، وإعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في الشهر نفسه، ومحاكمة الملك لويس السادس عشر في 11 كانون الأول بتهمة التآمر على الأمة الفرنسية، وإعدامه في 21 كانون الثاني 1793م، وتتالت أحداث متصاعدة من العنف الداخلي تشبه إلى حد التطابق الخروج الأسبوعي والشهري للجماهير المصرية إلى ميدان التحرير لكن بقدر عنف أعلى عند الفرنسيين.

في مصر انتهى الاعتصام الجماهيري المتواصل في ميدان التحرير خلال شهر كانون الثاني من عام 2011م بتنحي الرئيس حسني مبارك واعتقاله، وتشكيل الجمعية التأسيسية، وتنفيذ الانتخابات البرلمانية، وانتخاب أول رئيس مدني للبلاد منذ أن عرفت مصر بهذا الاسم. ومع نهاية العام الثالث لكلا الثورتين سقط عدد كبير من الضحايا، ففي الثورة الفرنسية كان تعداد القتلى يتجاوز الـ (40000) مواطن في الفترة الواقعة بين 1789 و1792م، نصفهم سقطوا على يد النظام الثوري الذي ورث نظام الملك، وسقط في مصر خلال السنوات الثلاثة الأولى حوالي (50000) قتيل، جزء كبير منهم سقط بيد النظام المنتخب والجزء الآخر بسبب الفلتان الأمني المروع الذي ساد المدن المصرية.

العنف المفرط في يوميات الثورتين الفرنسية والمصرية
أعتقد أن العنف الشديد الذي مارسه المتظاهرون في الميادين المصرية المختلفة يعود إلى تعطش الشباب المصري لحرية التعبير العلنية عما يجول بخاطرهم، وهو ما افتقدوه خلال الأربعين عاماً الأخيرة من عمر الشعب المصري، يعني ذلك أن أربعة أجيال متتالية حرمت من هذه الحرية، ويعني أيضاً أن الضوابط الاجتماعية والقيمية فقدت قدراتها في لجم غائلة العنف الميداني الذي خرج من عقاله؛ لأنك قد ترى ثلاثة أجيال متعاقبة تمارس العنف في الميدان في آن واحد، وهو أمر أخذ لنفسه في مصر خلال فترة مبارك طابعًا عصابيًا إجراميًا اسمه (البلطجية)، وجنوده أبناء العشوائيات، ومسؤولوه ضباط وشخصيات لها صلات وثيقة بالحكم ورجال الأمن، وأساطين اقتصادية وسياسية أخرى من رموز الدولة العميقة في الداخل المصري، واعتبر هذا الأمر أحد الأسباب المساعدة التي دفعت مصر إلى هذا المنزلق.

إن تفاعل كل هذه العناصر مع بعضها بعضاً تسبب وفقاً للسيد ياسين أيضاً "بالانفلات الديمقراطي، الذي نشأ بعد ثورة 25 كانون الثاني 2011م، وتفجرت في ظله الطاقات الثورية والسياسية الكامنة لدى ملايين المصريين بعد عقود طويلة من الكبت السياسي والقمع الفكري والثقافي، غير أن استمرار الظاهرة وتصاعدها يوماً بعد يوم إن دل على شيء فإنما يدل على أن النخب الثورية والسياسية المستنيرة لم تقم بواجبها في ترشيد السلوك السياسي للجماهير". (المصدر- المصدر السابق نفسه، السيد ياسين)

فتحول هذا الانفلات إلى بيئة خصبة لاستقطابها من قبل النخب السياسية الصاعدة والمتصارعة في آن واحد؛ بسبب تدخل المال السياسي الخارجي المشبوه الذي حاول هدم الدولة المصرية وتوظيفه، وذلك باستهداف المؤسسات الرئيسة التي تستند إليها، كمؤسسات الشرطة والقوات المسلحة والقضاء، ولاقى هذا الانفلات نجاحًا منقطع النظير بسبب الفقر، والجوع، والبطالة، وتدهور القيم، والضياع الفردي للشباب الباحثين عن عمل ومصادر للدخل.
وإذا ما قدر لهذا المتغير أن يستنفذ كامل طاقته في الداخل المصري فمن المرجح أن يطول معه أمد الفترة الانتقالية بسبب قوته الميدانية؛ لأنه موجه لزعزعتها وإفشالها بصرف النظر عن من سيفوز بكرسي الحكم خلالها، وهو أمر سيتنبه له المصريون بعد أن تتعرى عبثيته المطلقة أمامهم وانصراف خادميه من حوله ليصبح ضعيفاً ومكشوف الوسيلة والغاية، عند ذلك يمكن الاستبشار باستقرار المراحل الانتقالية التي ستؤسس للدولة المصرية الجديدة.

الثورتان الفرنسية والمصرية تفتكان بحلفائهما
بعد إعدام الملك لويس السادس عشر سيق آلاف الناس إلى المقصلة بتهم معاداة الثورة، وتم تكوين جهاز (الأمن العام)، وتولى إدارته (دانتون) وهو أحد قادة جماعة اليعاقبة، أي الفصيل الأقوى من بين الفصائل المشاركة في صناعة الثورة الفرنسية، وانقسم اليعاقبة فيما بعد إلى قسمين، الأول: اليعاقبة، وهم القسم الأقوى في باريس ومحيطها، ومن زعمائهم البارزين (روبسبير) و(مارا) و(دانتون). والثاني: الجيروند، وهو اسم أحد الأقاليم الفرنسية، وتعد الجمهورية مثلهم الأعلى، وكانوا يحظون بتأييد الريف الفرنسي، ومن زعمائهم البارزين (بريسو) و(بيزو) و(فرنيو) و(رولان). وقاتل القسمان اليساريان بعضهما بعضاً بشكل بشع ومروع، وتبادلا اتهامات التخوين وسرقة الثورة على نحو يشبه الاتهامات التي تكيلها لبعضها بعض أطراف الثورية المصرية كافة.

في 2 تموز 1793م، بدأت حملة لملاحقة (الجيروند) من قبل اليعاقبة، وأرسل إلى المقاصل كل من وقع في قبضتهم، وقلائل الذين حظوا بفرصة الإقامة في الباستيل من جديد، وقد اتسمت المرحلة الانتقالية الأولى التي بدأت في آب 1792م (أول ثلاث سنوات) بالفوضى والعنف الشديدين، وهي المرحلة التي تولى فيها اليعاقبة السلطة في فرنسا، والذين وصل عنفهم إلى درجة تنفيذ مجازر حقيقية ضد الخصوم الوطنيين (الجيروند).
وأعدم الثوار الفرنسيون اللدودين كل من خالفهم القول والرأي، وطالت الإعدامات العلماء والفلاسفة والمفكرين ورجال الدين، وكل من شكوا بصفاء ولائه لهم، مثل عالم الفلك (باتي)، وعوقبت مدن فرنسية بأكملها مثل ليون وطولون عقوبات جماعية لإظهارها التململ من الثوار الديكتاتوريين.
وأعلن (روبسبير) كبير اليعاقبة أن فرنسا تسبق الدول الأوروبية بألف عام حضاري، وبالتالي لا بد من جعل تاريخ فرنسا يبدأ من موعد الثورة، وأعاد ترتيب الشهور وأسمائها، وزيادة عدد أيام الأسبوع لتصبح (10) أيام بدلاً من (7) أيام، وهو مسعى يشبه محاولات الإخوان المسلمين في مصر لاعتماد التقويم الهجري بدل الميلادي، وأخونة البلاد والسيطرة على مقاليد الوزارات السيادية المصرية وفقاً لادعاء متهميهم من المشاركين في الثورة، ولم يشاركوهم الحكم.
ووصل الأمر باليعاقبة إلى اختراعهم ديانة جديدة سموها (عبادة العقل)، وأجبروا الرهبان والقساوسة على ترك المذهب الكاثوليكي، وقطعوا علاقة فرنسا بالفاتيكان، وفي 24 تشرين الثاني 1793م أغلقت جميع الكنائس في باريس، وحولت (2400) كنيسة إلى ديانة عبادة العقل الجديدة والمبهمة، وانقسم اليعاقبة بدورهم إلى ثلاثة مجموعات لكل منها أنصارها، وراحت تحارب بعضها بعضاً، وانتهى بها المطاف إلى أن ترسل كل منها بالأخرى إلى مقصلتها الخاصة، وكانت المقصلة سُنة الثورات والأنظمة التي لا تحترم المبادئ والقيم في أوروبا، ويهم سدنتها الانتصار لآرائهم على جثث الآخرين، ويرجع ذلك إلى الخوف؛ فكان كل فريق يتربص بخصمه السياسي بعد وصوله للسلطة بهدف إنهائه وإرساله إلى الجحيم.
وتوحش عنف (روبسبير) لتصل إعداماته رفاق دربه، كـ (دانتون وكميل وديمولان)، وحدث ذلك في يوم 5 نيسان 1794م؛ لأن عهد الثوار الأول كان مبنيًا على عدم الثقة، والشك برفاق الدرب وبزملاء المرحلة الواحدة، وأصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم، وهو أمر يحاكي إلى حد بعيد العلاقة التي سادت بين القوى الثورية المصرية التي فجرت الثورة في الميادين، واختلفت عند تشكيل القوائم الانتخابية، وعند صناديق الاقتراع، وعند تشكيل الحكومات، وعادوا ليواجهوا بعضهم بعضاً من جديد في الشوارع والساحات العامة.

أفضى هذا العنف إلى فوضى عارمة اجتاحت المدن الفرنسية الرئيسة؛ لأن روسبير اتهم خصومه بأنهم يريدون إقصاءه وإطاحته من مكانه، ورفاقه اتهموه بأنه تحول إلى إرهابي من الطراز الأول يقتل بلا رحمة شركاءه في المسيرة، وهكذا اشتد إرهاب الدولة المرتكز على الشك والخوف من كل من له علاقة برفاق الأمس، فاندلعت المواجهات بين الخصوم الوطنيين في الشوارع والميادين، وفقدت فرنسا من أبنائها ما بين 10 حزيران و27 تموز 1794م أكثر من (1376) ضحية.

في نهاية نهار يوم 27 تموز اعتقل (روبسبير) واقتيد إلى الباستيل، وخرج في اليوم التالي لتبدأ حرب فعلية بين أنصاره وخصومه، وفي 12 تشرين الثاني 1794م أغلق نادي اليعاقبة، وبدأت أحكام الإعدام تتضاءل وعاد (75) من أعضاء الجيروند من المعتقلات إلى مقاعدهم بالمؤتمر الوطني الفرنسي، في حين كانت فرنسا تقاسي الفقر واضطراب أوضاعها التجارية، وقد مهدت تلك الصراعات لصعود قائد الجيش "نابليون بونابرت" عرش فرنسا.

فشل المرحلتين الانتقاليتين تسبب بعودة النظام الملكي على يد الجيش في فرنسا وعودة الجيش إلى صدارة المشهد السياسي في مصر.

فشلت المرحلة الانتقالية التي قادها الثوار الفرنسيون في إدارة البلاد بعد النظام الملكي فشلاً ذريعاً بسبب ما تم سرده من أحداث، وفي منتصف عام 1795م وصل نابليون الأول إلى السلطة، وتراجع التيار الثوري، وعادت البورجوازية المعتدلة إلى صدارة المشهد السياسي الفرنسي، وسيطرت على الحكم ووضعت دستوراً جديداً، وتحالفت تحالفاً وثيقاً مع الجيش، كما شجعت قائد الجيش نابليون بونابرت على القيام بانقلاب عسكري، ووضع حداً للثورة وإقامة نظام ديكتاتوري توسعي.
وأعقب ذلك إعادة النظام الملكي تحت إمرته، واستبدال النظام الجمهوري بنظام ملكي، الذي تم استبداله بين الفينة والأخرى بنظام جمهوري لفترات محددة خلال القرن التاسع عشر.
وهذا الأمر يقترب إلى حد التطابق مع ما حدث في مصر بعد انتخاب الرئيس "محمد مرسي" وإدارة ظهره للشركاء في الثورة، الأمر الذي دفعهم إلى الخروج عليه في الأول من تموز 2013م، وعزله من قبل الجيش المصري واعتقاله، وعودة الجيش إلى واجهة الأحداث، وهو أمر بكل المعاني يعبر عن تعثر المرحلة الانتقالية وما تلاها من محاولات استقرار وعودة الأمور في مصر إلى سيرتها الأولى.

عند مراجعة مسار الأحداث في مصر منذ بداية عام 2011م، سنرى بأن الثورة المصرية سارت في مسار أحداث الثورة الفرنسية نفسها مع بشاعة أقل من التي مارسها الثوار الفرنسيون ضد خصومهم الوطنيين، وأخيرًا انفكاك عرى تحالف قوى الثورة المصرية إلى ثلاثة معسكرات، وهي: المعسكر الوطني بقيادة قوى التحالف الوطني والقوميين، والثاني: الإسلاميين المتشددين السلفيين، وأخيراً الإخوان المسلمون الذين فازوا بالرئاسة وغالبية مقاعد مجلس الشعب.

نتائج الثورة الفرنسية
بعد مضي عشرة أعوام من الأحداث الصاخبة في فرنسا خاضت فرنسا خلالها حرب شرسة ضد إيطاليا وألمانيا، تمكن الفرنسيون من استخلاص العبر من كل ما حدث في بلادهم، واعتنقوا الديمقراطية كخيار نهائي لممارسة حياتهم المدنية والسياسية، وأقروا نظام فصل السلطة عن الدين، وأقروا مبادئ المساواة وحرية التعبير، وتم القضاء على النظام الاقتصادي القديم، وفتح المجال أمام تطور النظام الرأسمالي وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة، وحذف الحواجز الجمركية الداخلية، واعتماد المكاييل الجديدة والمقاييس الموحدة.
وتم إلغاء الحقوق الفيودالية وامتيازات النبلاء ورجال الدين، ومصادرة أملاك الكنيسة، كما أقرت الثورة مبدأ مجانية وإجبارية التعليم، والعدالة الاجتماعية، وتوحيد اللغة الفرنسية وتعميمها.
وهكذا أسست هذه الثورة لعهد فرنسي جديد أثر في المجتمعات الأوربية كافة، كما أثر في مختلف دول العالم بعد اقتدائها بمبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية الفرنسية، وتحولت باريس إلى عاصمة للتنوير والتحديث.

النتائج المتوقعة للثورة المصرية
سواء طالت المرحلة الانتقالية في مصر أو قصرت، فإنني أتوقع أن تنتهي الثورة المصرية إلى نتائج في منتهى الأهمية، وفي مقدمتها تيقن الشعب المصري ونخبه السياسية والدينية والاجتماعية من أن إمكانية إقصاء الآخر ليس في مصلحة البلاد، ولأن لا أحد يمتلك مثل هذه القدرة مهما بلغت قوته المادية النسبية من حدود، لذا فإن الوطن القوي هو المحصن بمشاركة كل أبنائه بلا استثناء أو إقصاء في مسيرة نهضته، وتتجسد هذه القناعة من خلال الممارسة الفعلية على الأرض وتسليم الأقلية بفوز الأغلبية، وتسليم الأغلبية بحق الأقلية المقدس في مشاركتها إدارة البلاد من خلال تطبيقات النظم الديمقراطية المتعددة، كالبرلمان، ولجان الرقابة، والقضاء المستقل.
ومن المؤكد أن الإنسان يعي هذه المفاهيم الإدراكية من خلال التجربة والخطأ، ويقصد هنا بالتجربة تلك التجربة الجمعية للشعب أو الأمة، وهي تجارب خاضت غمارها غالبية الدول العظمى التي تتحكم بمصير الأرض في هذا القرن بعد أن خاضت شعوبها حروباً داخلية طاحنة وغير أخلاقية ضد بعضها بعضاً، لكنها توقفت عن استباحة دمها الوطني في اللحظة المناسبة، وبسبب فظاعة الحروب الأهلية قرر مجربوها أن لا عودة إليها، واعتنقوا بديلها العقلي، وهو وحدة الديار أرضاً وشعباً، وعندما يتحقق لمصر مثل هذا الأمل فإن الأمة من ورائها ستكون بخير، وعندها فقط يمكن لمصر أن تقود الأمتين العربية والإسلامية في طريق النهضة المأمولة والتجديد والفلاح.

الجواب الاستنتاجي لعنوان المقالة
نعم يوجد أمل كبير باستراداد أهداف الثورات، وتحقيق أهدافها أو الجزء الأعظم منها، وفقاً لاستنتاجات د. حمامي التي أشاطره الرأي بقوتها، وهي إنه "لا يمكن للهجمة المضادة أو الثورة المضادة فشلاً للربيع العربي، فرغم التراجعات أعلاه إلا أن من يقودون الثورات المضادة فشلوا حتى اللحظة في حسم الأمور لصالحهم، وخرج الخبث بشكل واضح، وتعروا وفُضحوا على الملأ، وأصبحت المواجهة واضحة دون مواربة كما كان في السابق، أي أن الشعوب باتتأكثر وعياً بأعدائها ومن يتربص بها.
"وأن تحميل الشعوب العربية مسؤولية ما آلت إليه الأمور فقط لمطالبتها بأبسط حقوقها"، لا يستقيم مع الفهم السليم لحركية الفعل التاريخي، الذي يخفي الأمل تاره، ويظهره تارة أخرى على نحو يعمي الأبصار من قوة حضوره وتجسده، كاستجابة طبيعية منه لارتفاع منسوب الضحيات الجماهيرية في ميادين البذل والعطاء الذي لا يعرف الحدود.

مصادر المقالة ومراجعها
1- إبراهيم حمامي، مدير مركز الشؤون الفلسطينية، إنصافا للثورات العربية، 2 أيلول 2018م.
2- المصدر السابق، إبراهيم حمامي.
3- السيد ياسين، الديمقراطية والفوضى، جريدة الوطن المصرية، السبت 1 ايلول 2012م.
4- المصدر السابق نفسه، السيد ياسين.


(*) ناصر دمج. باحث ومؤرخ