الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

نهاية “المشروع الوطني الفلسطيني!” المعاصر

نشر بتاريخ: 03/06/2020 ( آخر تحديث: 03/06/2020 الساعة: 11:58 )

الكاتب: حيدر عيد


أصبح من الواضح الآن بعد إعلان منظمة التحرير الفلسطينية أنها في "حل من الاتفاقيات الموقعة" مع كل من دولة الاستعمار الاستيطاني و الولايات المتحدة الأمريكية، و بعد 46 عاماً من تبني ما اتفق على تسميته بالبرنامج المرحلي للمنظمة الذي تخلى ضمنياً عن برنامج تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، وبعد32 عاماً على إعلان الاستقلال الشهير و الذي وافق على ٌغامة دولة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، و بعد27 عاماً من توقيع اتفاقيات أوسلو التي أثمرت عن تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية ودورتين انتخابيتين لمجلس تشريعي يمثل ثلث الشعب الفلسطيني، أن ما اصطُلح على تسميته بالمشروع الوطني الفلسطيني قد وصل الى نهاياته، دون أن يقوم من صاغه و دافع عنه، أو الذي تبناه حديثاً، بطرح بديل ديمقراطي تحرري.

المشروع الوطني، الذي أُعيدت صياغته عام 1974 يدعو لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، مع ضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، و باسم هذا المشروع تم توقيع اتفاقيات أوسلو و البدء بمفاوضات، لم يبد منذ بدايتها أن لها نهاية, مما أعطى الوقت الكافي للطرف الاسرائيلي لتدمير الأسس التي قام عليها هذا المشروع. و يكمن التناقض البنيوي في هذا المشروع في الجمع بين إقامة الدولة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، و في نفس الوقت المطالبة بالعودة الى دولة تعرف نفسها بأنها ليست دولة مواطنيها. و هذا التناقض أدى بالضرورة الى تهميش جوهر القضية الا وهو حق العودة و التعويض.

و لكن هذا العجز البنيوي يتجسد أيضاً في تجنب ذكر المكون الثالث من الشعب الفلسطيني، ذلك المكون الذي حافظ، و لا زال، على العلاقة الوطيدة مع ما كان وطناً واحداً تحول معظمه الى”وطنٍ” لفئاتٍ استعماريةٍ استيطانية. و هنا يكمن جوهر فشل المشروع الوطني الفلسطيني من حيث أنه لم يتعامل مع المشروع الصهيوني على هذا الأساس، بل على نحو صغّره، اي المشروع الصهيوني, الى احتلال عسكري لجزء من الوطن، كأي احتلال أجنبي تقوم به دولة لدولة أخرى. و بالتالي فإن التخلص من هذا الاحتلال يؤدي الى الحرية المنشودة!

و مع دورة الانتخابات الثانية للمجلس التشريعي(2006)، أحد أدوات اتفاقيات أوسلو، قامت تيارات كانت معارضة للاتفاقيات بالمشاركة، و بالتالي إعلان قبولها الضمني بتبعاته، و منها الموافقة بطريقة ملتوية على المشروع الوطني الفلسطيني كما تم تعريفه من الطبقات السياسية الحاكمة و المسيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية. و لكن الفارق أن خيار ثلث الشعب الفلسطيني الذي توجه الى صناديق الاقتراع للمرة الثانية كان مختلفاً هذه المرة و منحازاً لما اعتبره مشروعا مناقضاً للحل التجزيئيء الذي ميز المشروع الوطني منذ بداية السبعينيات. بمعنى آخر، فإن الخيار الديمقراطي لم يكن لأجندة حزبية أو أيديولوجية ميّزت المنتصر،بل هو انقلاب على حل الدولتين دائم الانزلاق و الذي بدوره أصبح مستحيلاً. إلا أن البراغماتية غير المبدئية، ووجهها الاخر الدوغماتي، أديا الى تبني التيار الفائز لنفس المشروع و لكن بتبريرات و شعارات تميزه شكلياً عن التيارات الأوسلوية, يمينية كانت أو حتى”يسارية!”

من المفارقات أن أصحاب حل الدولتين، التيار الوطني– بشقيه اليميني و اليساري—و التيار الديني الذي يقبل بدولة على حدود 67 مع هدنة طوية الأمد، يعتبرون حل الدولة الديمقراطية الذي يكفل عودة اللاجئين بطريقة عملية و المساواة الكاملة على أساس المواطنة حلاً "غير عملياً" و/أو "مستحيلاً،" و في أحسن الحالات “طوباوياً،” مع إغفال أن الحل العنصري، أي حل الدولتين/السجنين، يرسخ “شرعية” المشروع الكولونيالي الاستيطاني على 78% من أرض الوطن، الوطن المتعارف عليه من كل مكونات الشعب الفلسطيني، و ليس كما تم تصغيره.

و الحقيقة أن أكثر الردود غرابة على الحل الديمقراطي التحرري هو أن “اسرائيل لن تقبل به!” و يأتي هذا الطرح عادة و كأنه ضربة قاضية، و كأن كل الشعوب المُستعمَرة و التي ناضلت من أجل حريتها كانت تأخذ في حسبانها رضى المستعمِر المضطهِد, و موافقته على حل تحرري هو بالضرورة النقيض الجذري للعبودية التي يمارسها دفاعاً عن مصالحه. لم يوافق مجتمع الاستعمار الاستيطاني الأبيض على الحل الديمقراطي الذي طرحته الحركة المناهضة للأبارثهيد بقيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، كما لم يوافق مجتمع الاستعمار الأبيض الفرنسي على حل مشابه في الجزائر. الحل جاء نتيجة خلق شرخ في الوعي العنصري في الحالة الأولى من خلال مقاومة شعبية عارمة مصحوبة بحركة مقاطعة عالمية عملت على عزل النظام العنصري، و في الحالة الثانية دفع الشعب الجزائري ما يقارب المليون و نصف شهيد للوصول إلى لحظة التحرير.

و السؤال المركزي في هذا السياق هو إن كان ما اصطُلح على تسميته بالمشروع الوطني الفلسطيني هو في جوهره تحررياً، بمعنى أنه يعبر عن تطلعات المكونات الثلاث للشعب الفلسطيني بالانعتاق من مشروع استعماري استيطاني كالمشروع الصهيوني؟ أم أصبح يعبر عن إما مصالح طبقية ضيقة لطبقة غير أصيلة استحوزت على تعريف هذا المشروع بشكل يعبر عن مصالحها الطبقية المباشرة، أو من ناحية أخرى، مصالح أيديولوجية ضيقة لا ترى الأبعاد التحررية للمكونات الثلاث بشكل متكامل، و تتميز بأجندة إجتماعية محدودة لا تأخذ في الحسبان مفهوم العدالة الاجتماعية إلا من منطلق الاحسان و الصدقة و خلط ذلك بمفهومي المقاومة و الصمود؟

و بالتالي فإن الرؤية قصيرة النظر لمفهوم المقاومة، و إن كانت هذه الرؤية هي السائدة في جزء يشكل ما يقارب 1.8 % من أرض الوطن، تخلط خلطاً واضحاً بين ما يمكن أن يُحقَق على المدى القصير و تعتبره استراتيجية تحررية، و النظرة التحررية بعيدة المدى و الغائبة كلياً من برنامجها. بمعنى أن هذا الخلط هو بين مشروع التحرير الذي صُغّرليتناسب مع الرؤية الأيديولوجية الضيقة وبالتالي أصبح مشروعاً قصير المدى يحتفي بانجازات لا علاقة لها بالمشروع الاستراتيجي بعيد المدى. و عليه يصبح إعادة انتشار قوات الاحتلال حول قطاع غزة و تحويله عملياً من معزل عرقي الى معسكر اعتقال إنتصاراً هائلاً! و تصبح زيارة وفد تضامني لهذا المعسكر انجازاً آخراً نحو التحرير! و لكن مع إقصاءٍ كاملٍ للأشكال النضالية الأخرى، بل محاربتها في كثير من الأحيان.

و الأغرب هو أن أية مقارنة موضوعية لمدى التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني بكل تشكيلاته السياسية و الاجتماعية منذ النكبة الأولى 1948 ،مروراً بالنكبات المتلاحقة، و التضحيات التي قامت بها شعوب ترزح تحت نير احتلال أو استعمار استيطاني، توصل لنتيجة واضحة ألا و هي أن كل الاستثمارات السياسية لهذه التضحيات لا تتناسب مطلقاً مع حجمها.

إن الفشل الذريع هو ما يميز النخب السياسية الفلسطينية إما من خلال قصر النفس النضالي، و/ أو تغليب المصلحة الطبقية غير الأصيلة على الأهداف التحررية إنسانية الأبعاد، و/أو غياب رؤية استراتيجية تحررية بالمعنى الحرفي للكلمة، و/أو تشويش معنى المقاومة ليناسب مقاس عباءة أيديولوجية ضيقة، أوحتى احتكارها، والتغني بها بشكل موسمي، و تصوير هذا الفشل على أنه إما إنجاز غير مسبوق (فوزنا بمقعد مراقب في الأمم المتحدة !) أو إدعاء التحرير، كما حصل في غزة، دون ربط هذا “التحرير” برؤية استراتيجية بعيدة المدى تأخذ في الحسبان الطبيعة الكولونيالية للمشروع الصهيوني برمته، و المكونات الثلاث للشعب الفلسطيني التي تضررت بأشكال مختلفة من وجود هذا المشروع. إن عدم التركيز بشكلٍ متكافئٍ على هذه الفئاتا الفلسطينية و على حقوقها الكاملة، و الربط بين هذه الحقوق–من حرية و عدالة و مساواة– هو بالضبط ما يوضح فشل ما يُسمى بالمشروع الوطني الفلسطيني كما يعرف من قبل التيارات السائدة

و عليه فإن النظام السياسي الفلسطيني برمته يحتاج الى مراجعة نقدية جذرية تعمل على تخطيه، آخذة بعين الاعتبار الوصول الى بدائل للمشروع الوطني الذي أثبت فشله تاريخياً من حيث عجزه عن تحقيق الحد الأدني مما طرحه. و لا يمكن فصل هذه البدائل عن الأدوات النضالية الخلاقة التي تأخذ جميع قوى الشعب بمكوناته الثلاث بعين الاعتبار في مواجهة مشروع استيطاني استعماري، و ليس فقط إحتلالاً عسكرياً. و بدون تعريف واضح للطبيعىة الإضطهادية المركبة لهذا الاستعمار، من احتلال و استيطان تطهيري و أبارثهيد، و التعامل معها على أساس أنها تستهدف الشعب الفلسطيني برمته، فإن النجاح سيكون حليف الولايات المتحدة الأمريكية في مساعيها الأخيرة لمساعدة اسرائيل بإلحاق هزيمة تاريخية بالشعب الفلسطيني. لقد آن الأوان للتفكير، بل العمل الجدي لما بعد “المشروع الوطني الفلسطيني!”