الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الخطوط الحمراء في صراع الحكومة ونقابة المعلمين في الأردن

نشر بتاريخ: 18/06/2020 ( آخر تحديث: 18/06/2020 الساعة: 20:09 )

الكاتب: نضال منصور

كلما استمعتُ وشاهدتُ حديث نائب نقيب المعلمين في الأردن ناصر النواصرة وهو يتوعد ويقسم أغلظ الأيمان زاد منسوب القلق عندي من معركة كسر عظم قادمة على الأبواب، وشعرت أن التحشيد والتحريض تربة خصبة لصراع مُتجدد بين نقابة المعلمين والحكومة سيُشعل حريقا.

الشرارة التي أوقدت "مواجع" أطول إضراب في تاريخ الأردن كان فيديو تم تداوله على نطاق واسع للنواصرة يُقسم ويقول فيه "والله لو ارتدت علينا الكرة الأرضية لن نتراجع عن فلس واحد من علاوتنا، أو بند واحد من اتفاقنا مع الحكومة".

ويُكمل ما اعتبر وفسر أنه تهديد وتلويح بمكاسرة الدولة "والله لو ارتدت الكرة الأرضية، ليس الحكومة ودوائرها لن نتراجع".

شبح الصدام بين الحكومة ونقابة المعلمين يعود بعد أقل من عام على اعتصامهم وإضرابهم المفتوح الذي انتهى بتوقيع اتفاقية تاريخية بين الطرفين، والسبب هو قرار الحكومة بوقف العلاوات لكل موظفي القطاع العام نتيجة التداعيات الاقتصادية الصعبة لفيروس كورونا.

القناعات التي ترسخت في نقابة المعلمين أن حقوقهم لا يستطيعون تحصيلها إلا بالصراع

فيديو النواصرة وظف واستعمل لحرق صورته، وإظهار نوايا مُبيتة عند قيادات الإخوان المسلمين ومنهم "النواصرة" للضرب تحت الحزام في ظرف بالغ الحرج والدقة تمر به البلاد بسبب تفشي وباء كورونا، وزاد من تمدد فرضية المؤامرة التي تُروج لها الحكومة وأجهزتها الأمنية فيديو آخر لقيادي في نقابة المعلمين باسل الحروب يُهدد فيه بتعطيل المدارس ووقف التعليم لعام آخر، بعد أن توقف التعليم في المدارس منذ شهر مارس الماضي بسبب كوفيد-19، واستُعيض عن ذلك بالتعليم عن بعد.

المطلعون على خبايا بيت نقابة المعلمين لا يوافقون على فرضية هيمنة التيار الإسلامي، واستحواذهم على قرارها، واستخدامها في إشعال صراعات مع الحكومة تُعيد إحياء دورهم ووجودهم السياسي، ويُصرون على أن مجلس النقابة لا يضم سوى ثلاثة أعضاء محسوبين على تنظيم جبهة العمل الإسلامي الذراع السياسي للإخوان المسلمين، ويرون أن الأزمة سببها الحكومة التي تريد أن تتنصل من علاوة الـ 35 بالمئة التي حققتها النقابة بعد إضراب تاريخي.

معاينة المشهد بحثا عن نافذة للحقيقة ربما يكشف وجوها خافية لن تراها إلا إذا استمعت لأصوات متعددة، ولهذا فإن نائب النقيب النواصرة لا يتردد من المجاهرة في حديث لراديو البلد إلى أنه لم يُهدد أحدا على الإطلاق، ويُتابع "إذا أردت شيطنة شخص ستجد أكثر من وسيلة خصوصا عندما يكون لديهم كُتاب التدخل السريع".

النواصرة يُشدد على أن تصريحه أُخرج عن سياقه، وما قصده في كلامه أنه ثابت على الحق ولا يملك كناصر التنازل عن ذلك، وأنه يفرق بين الحكومة والدولة.

لا يُخفي ولا يُوارب النواصرة في الاتهام أن هناك من يحاول شيطنة حراك المعلمين، ويُدين تصريحا لا تلميحا أجهزة الأمن التي تدفع كُتاب المقالات أو ما يُسميهم "كُتاب التدخل السريع" لتشويه صورتهم، وإظهارهم تابعين يؤمرون من تنظيم الإخوان المسلمين لتنفيذ أجندتها.

الكاتب أحمد أبو خليل وفي مقالة له نشرت في موقع حبر تحت عنوان "حركة فقراء القطاع.. إضراب المعلمين نموذجا" يروي على لسان أحمد جردات أحد قيادات حراك المعلمين في السبعينيات من القرن الماضي أن المحقق كان يقول له "إن نسمح لكم بإنشاء نقابة يُشبه سماحنا بحصول انقلاب".

لا تُخفي الدولة الأردنية شعورها بعدم الارتياح لتنامي وتعاظم قوة نقابة المعلمين التي يُنظر لنشوئها باعتباره مولودا "غير شرعي"، وثمرة صعود الحراكات المجتمعية إبان الربيع العربي، وتعززت هذه المخاوف بعد انتصار نقابة المعلمين في إضرابها، ولهذا فإن الهواجس من تحركهم لاستعادة علاوتهم تتطلب ضربات استباقية، وسعيا محموما لوأده في مهده.

المشكلة التي لا تريد الحكومة وأجهزتها الأمنية الاعتراف بها أن قيادة نقابة المعلمين ليست مرهونة لقيادات التيار الإسلامي، والأكثر تأزيما أن القناعات النقابية التي ترسخت أنهم لا يستطيعون تحصيل حقوقهم إلا بالصراع وفرض الأمر الواقع كما يصف الحالة الناطق الرسمي باسم نقابة المعلمين نور الدين نديم، ويوافق على فرضية العلاقة الشائكة بين الحكومة والنقابة لأنها لم تنشأ بتوافق، وجاءت كنتيجة لضغوط الربيع العربي.

نقابة المعلمين تُلوح بالإضراب المفتوح وتُقدم نفسها كحركة تُمثل المظلومين والكادحين

نديم الذي لا يوافق على اللغة المُتشنجة في المطالبة بالعلاوة التي أوقفتها الحكومة منذ جائحة كورونا، يعتقد أن ما يُقلق خصوم النقابة أنهم يدركون أن الأعضاء المستقلين ـ وهم الأغلبية ـ "شورهم من رأسهم"، ومتحررين من قيودهم ومرجعياتهم الفكرية والحزبية، ويحظون بتأييد واسع بين المعلمين، ولا يمكن الضغط عليهم، أو التفاوض نيابة عنهم.

الأزمة كرة ثلج تتدحرج وتكبُر، وأول صافرة إنذار لمجلس النقابة أن هناك أوراقا كثيرة يمكن استخدامها للإضرار بهم، وحرقهم، وخلق مناخ معادٍ لهم، والدعوى القضائية التي حُركت ضد مجلس النقابة وتتهمهم بإساءة الأمانة واستخدام المال العام بطريقة غير شرعية أول الخطوات، وليس آخرها.

لائحة الدعوى في القضية المُقامة تبدو غريبة وطريفة، وتُظهر أن لا محرمات في الأسلحة التي يمكن أن تُستخدم في الصراع، وفحوى القضية اتهام أعضاء مجلس النقابة بإساءة الائتمان لأنهم تبرعوا بنصف مليون دينار لصندوق همة وطن لدعم جهود مواجهة كورونا في الأردن.

القناعة الراسخة عند أعضاء مجلس النقابة أنها حُركت بأوامر، وما يدعوهم للتندر أن مطالبات الدعوى ليست إعادة الأموال المُتبرع بها؛ وإنما المطالبة بحل المجلس وفصل الأعضاء وإلغاء عضويتهم.

ما زال صدى الشعار الذي أطلقه النواصرة "نجوع معا أو نشبع معا" خلال الإضراب المفتوح يتردد، وما تزال نقابة المعلمين تتصدر المشهد وتُقدم نفسها كحركة تُمثل المظلومين، ولهذا فإن قراءة بيان النقابة الاحتجاجي على وقف العلاوة والمطالبة بإعادتها مشحون بشعارات ماركسية كادت أن تختفي، ويُشير بوضوح إلى أن النقابة تريد أن توحي أنها "تُدافع عن الطبقة الكادحة، وعن إرادة المسحوقين ضد تغول الفاسدين والتحالف الطبقي".

لا يخلو بيان النقابة من التهديد وإظهار القوة، ويُعلن أن "خيارات التصعيد ستكون أكثر قوة مما سبق، والإجراءات سيكون عنوانها استرداد حقوق المظلومين".

مخالب الحكومة لا يُستهان بقوتها، وتُصبح أكثر ضراوة وفتكا في ظل قانون الدفاع

إذن سردية نقابة المعلمين لحركتها في الاحتجاج والصراع تؤطرها وتؤدلجها اجتماعيا وطبقيا، وتحاول أن تحشد موظفي القطاع العام المُتضررين معها، وهي تُلوح قبل أن تنتهي تداعيات كورونا إلى الإضراب، ومقاطعة الانتخابات القادمة بعد أن تكشف عن خطتها التدريجية للتصعيد والمواجهة.

معركة الإضراب المفتوح التي خاضتها نقابة المعلمين في الأردن العام الماضي وجدت تضامنا شعبيا وانتهت إلى نصر مؤزر لها، ولكن وكما يُقال بالأمثال الشعبية "لا تسلم الجرة كل مرة"، والمقربون من الحركة النقابية يجدون أن سعي النقابة إلى اقتناص الفرصة في الأزمة للتلويح بالتصعيد خطوة غير موفقة، وقفزة في الهواء، ولن تُفهم إلا في سياق "ليّ ذراع الدولة" وهو ما سيُقلل حالة التعاطف والالتفاف الشعبي معها، والأخطر والمرفوض شعبيا أن تعود النقابة إلى التهديد بالإضراب مرة أخرى، خاصة في هذا الظرف الذي لا يزال الطلبة في بيوتهم منذ أشهر، فهم وإن تعاطفوا مع الضائقة الاقتصادية التي يمر بها المعلمون والمعلمات، إلا أنهم يدركون أنها تمس كل القطاع العام، ولم يكونوا هم ضحايا الجائحة وحدهم.

شيطنة نقابة المعلمين بضاعة قد لا يشتريها البعض مهما بثت من فيديوهات لغتها مُتشنجة وفظة، إلا أن الخط الأحمر عند الأهالي أن يُستخدم الطلبة "رهائن"، أو "دروعا بشرية" في معركة النقابة ضد الحكومة لتحصيل حقوقهم.

تملك الحكومة "مخالب" لا يُستهان بقوتها، وفي ظل قانون الدفاع وأوامره تُصبح أكثر ضراوة وفتكا، وعلى "عقلاء" نقابة المعلمين تغليب الحِكمة على "الاستعراض الخطابي"، وتجنب الركون إلى زهو انتصاراتهم السابقة كذخيرة في معركة لاحقة، فالظروف والأيام والقناعات تتغير، وما يمكن أن تُقدم عليه الحكومة من إجراءات قد لا يكون بالحسبان وقيد التوقعات.

الفريقان الحكومة والنقابة عليهما أن يُدركا أن البلاد لا تحتمل أتون معركة جديدة بعد أن أنهكت في صراعها مع وباء عالمي.