الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

أزمة البطريركية اللاتينية إلى أين

نشر بتاريخ: 21/06/2020 ( آخر تحديث: 21/06/2020 الساعة: 10:39 )

الكاتب: سامر سلامه

قبل أربع سنوات وفور إستقالة بطريرك اللاتين فؤاد الطوال من منصبه، عين قداسة البابا فرنسيس رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسبالا مدبرا رسولياً لبطريركية اللاتين في القدس. جاء هذا التعيين في ظل أزمة إدارية ومالية لم تشهدها البطريركية خلال المئة وسبعون عاما من تأسيسها. فقد إستلم المدبر الرسولي البطريركية متخمة بدين مالي يقدر بمئة مليون دولار أمريكي بسبب سوء الإدارة التشغيلية السابقة كما جاء في بيان البطريركية الأخير "لا يخفى على أحد أن بطريركية القدس للاتين تواجه في السنوات الأخيرة عجزًا ماليًا كبيرًا يبلغ حوالي ١٠٠ مليون دولار أمريكي، بسبب سوء الإدارة التشغيلية السابقة، الذي يرتبط مباشرة بالجامعة الأمريكية في مادبا. يذكر أن الديون المستحقة تعود لمصارف مختلفة وليس للفاتيكان". وقد حاول المدبر الرسولي وفريق عمله الإداري والمالي للعمل على مسارين الأول الإصلاح المالي والإداري للبطريركية لمنع تكرار الأخطاء التي مرت بها البطريركية خلال السنوات السابقة وأعتقد أنه نجح في هذه المهمة من خلال مجموعة من الإجراءات والتعليمات والأنظمة التي تم إقرارها بهذا الخصوص. والثاني العمل على تسديد الديون المتراكمة على البطريركية التي خلفتها الجامعة الأمريكية في مادبا لبنك سويسرا الذي أقرض البطريركية مبلغ 50 مليون دولار أمريكي بكفالة الفاتيكان والتي تستحق مع نهاية العام الحالي 2020. وقد باءت جميع المحاولات بالفشل لتأمين المبلغ المطلوب لبنك سويسرا الأمر الذي دفع بالبطريركية للتفكير ببيع قطعة من أرضها في مدينة البشارة "الناصرة" كخيار أخير بعد فشل بيع أرض للبطريركية في مناطق أخرى. وما أن أعلنت البطريركية عن نيتها بيع أرض الناصرة حتى إنهالت الإنتقادات لهذا القرار من جميع أبناء الرعية التابعة لبطريركية اللاتين. وقد وجه الجميع أسئلة مباشرة أهمها لماذا نبيع أرض الناصرة أو أراضي فلسطين لتسديد ديون على البطريركية في مادبا؟ ولماذا لا يتم بيع أو تأجير الجامعة نفسها مصدر تلك الديون؟ ولماذا لا يسدد الفاتيكان تلك الديون؟ ولماذا لم يحاسب من تسبب بتلك الديون؟ وإذا تم تسديد الديون من يضمن عدم تكرارها؟ وما هو مصير البطريركية ما بعد مرحلة المدبر الرسولي؟ وهل سيتم تعيين بطريرك من كهنة البطريركية أم من خارجها؟ وهل البطريرك الجديد سيلتزم بإجراءات وتعليمات الإصلاح الإداري والمالي التي تمت خلال مرحلة المدبر الرسولي؟ وغيرها من الأسئلة التي تتطلب من البطريركية الإجابة عليها بكل صدق وشفافية.

إن الأزمة الحالية للبطريركية قد سلطت الضوء على الكنيسة كمؤسسة إجتماعية إقتصادية في حين أن الكنيسة هي "جماعة المؤمنين" وليست بناية أو عقار أو مؤسسة إقتصادية أو بنك. فإن الأرض والأملاك والأموال التي تمتلكها الكنيسة هي ليست الهدف بحد ذاته وإنما هي الوسيلة التي يمكن أن تستخدم لخدمة الكنيسة أي جماعة المؤمنين. فبيع الأملاك أو تأجيرها ليست جريمة بحد ذاتها وإنما الجريمة في سوء التصرف في تلك الأملاك والأموال.

كما أنه يجب الإشارة هنا أن مصدر ممتلكات الكنيسة هي تبرعات جماعة المؤمنين من أبناء الرعية أو المحسنين من الخارج "وكان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة، لم يكن احد يقول عن شيء يملكه انه خاص به بل كان كل شيء مشتركا ولم يكن فيهم محتاج، لان كل الذين كانوا يملكون صياغا او بيوتا كانوا يبيعونها ويأتون بأثمانها ويلقونها عند اقدام الرسل فيوزع لكل واحد حسب احتياجه" (اعمال الرسل 4: 33-35) . فجميع ممتلكات الكنيسة هي ملك للكنيسة أي جماعة المؤمنين يترك التصرف بها للرسل ومن ينوب عنهم ولكن تصرف تلك الأموال على المؤمنين أنفسهم كل حسب إحتياجه. ومن هنا نستنتج أن أملاك الكنيسة وخاصة أراضيها في فلسطين والتي تم شرائها أو وقفها من تبرعات المؤمنين من الخارج أو من أبناء الرعية الذين أوقفوها لصالح الكنيسة قد أعطي الحق للرسل للتصرف بها إلا أن النفع من تلك الأموال والممتلكات لا بد أن تذهب للمؤمنين وليس لغيرهم. أي أن أملاك وأموال الكنيسة في أبرشية القدس يجب أن تصرف لصالح أبناء الأبرشية. وللحقيقة التاريخية فإن معظم أراضي الكنيسة في فلسطين قد تم شرائها أو وقفها لإنقاذها من التسرب لليهود في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهذا يسجل للكنيسة على هذا الدور الوطني الكبير.

أما فيما يتعلق بالحملة المضادة لبيع الأراضي الوقفية في فلسطين فإنها مرتبطه بحساسية إنتقال الأراضي الوقفية لجهات مشبوهة. ففي ظل الصراع القائم بين أبناء الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه من جهة ودولة الإستعمار الإسرائيلي من جهة أخرى، فإن الصراع على الأرض هو صراع وجودي لا يمكن التساهل أو التهاون فيه وخاصة في ظل سياسات الإستعمار الإسرائيلي الذي يسعى للحصول على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية بكل الوسائل ومن ضمنها شراء الأرض من مالكيها الأصليين أو مصادرتها بالقوة. وهنا تأتي حساسية بيع الأرض وخاصة للمستعمر. فلا مجال هنا للمساومة فإن بيع الأرض أو تأجيرها للمستعمر ليس خطيئة فقط وإنما خيانة وطنية لا يمكن السكوت عليها. أما في سياق بيع الأرض الوقفية في مدينة الناصرة فإن المشتري كما أعلن فهو مستثمر فلسطيني من أبناء البلد ولكن تبقى المقامرة في من يضمن عدم تسريب الأرض بعد شرائها لجهات مشبوهة؟.

وبناء على ما سبق، فإنني أرى أنه لا يمكن إختزال المشكلة في بيع الأرض من عدمه وإنما علينا الوقوف على الأسباب التي فرضت على البطريركية خيار البيع. لذلك فإنني أرى أنه من المؤسف أن تمر هذه الأزمة مر الكرام دون الوقوف على الأسباب التي أدت لتلك الأزمة ومحاسبة متسببيها وإتخاذ العبر من التجربة السابقة والإلتزام والتعهد من الفاتيكان أولا وإكليروس البطريركية ثانيا وأبناء الأبرشية ثالثا بعدم السماح لتكرار ما حصل من خلال إصدار تعليمات وأنظمة وقوانين ناظمة. ويجب تهيئة الظروف والإمكانيات للبطريرك الجديد للبدء في عمله دون مشاكل أو أزمات من هنا وهناك لكي يتفرغ لعمله الرعوي الذي إفتقدناه منذ فترة والتهيئة لتشكيل جسم إستشاري يضم نخبة من العلمانيين لمساعدة البطريركية على إدارة مؤسساتها وأنشتطها الإجتماعية والإقتصادية والتعليمية والصحية. فموضوع الأرض والديون أصبحت ورائنا لأن جميع المحاولات الرامية لتجنيد الأموال اللازمة لسداد تلك الديون لم تنجح. ومن هنا علينا أن نتطلع إلى الأمام والإلتفاف حول كنيستنا المحلية ودعم جهود الإصلاح فيها ليتسنى لها الإضطلاع بدورها الروحي والزمني لخدمة أبناء الرعية.