الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

متاحف الجثث

نشر بتاريخ: 09/07/2020 ( آخر تحديث: 09/07/2020 الساعة: 16:20 )

الكاتب: د. صبري صيدم

صور الجزائر وهي تستعيد جثامين شهدائها قبل أيام، مع حلول ذكرى استقلالها لم تقتصر في أثرها المعنوي على نبش قبور الأبطال الذين أعدمتهم فرنسا ومنهم الثائر بوزيان القلعي، الذي أعدم عام 1876، وإنما أعاد إلى ذاكرتنا نبش العار الذي أحاط تجار الشعوب، ممن مارسوا رياضة القتل والاستعمار وزراعة التشريد والتخلف.

كما ساهم مشهد هذه الجثامين في نبش الجرح الغائر الذي تعيشه الأمة العربية، جراء التخلف والفقر والهيمنة والتبعية، التي أوجدتها الشعوب الطامعة واحتلالاتها وصولاً إلى فلسطين الأسيرة، التي بات نحرها يومياً أمراً لا يهز بعض أبناء جلدتنا.

الجزائر المتفاخرة بعودة الأحباب بعد حوالي 170 عاماً، قدمت مشهداً مهيباً في استقبال الشهداء، والتأكيد على أن الإنسان، خاصة من ذاد عن حياض وطنه ليس رقماً منسياً عابراً، وأن حقوق الأمم وهامات أبنائها لا تسقط بالتقادم، ولا حتى مع مرور قرونٍ مؤلمة من الزمن.

المفاجأة الأكبر كانت في أن هؤلاء الأحباب العائدين في معظمهم لم تنبش قبورهم لاستخراج عظامهم، بل كانت بعض هذه العظام والجثث قد وضعت في المتاحف الفرنسية لتتباهى فرنسا بمن قتلت، وتفتخر بإمبراطوريتها الغابرة، وتستخدم بشاعة الاستعراض هذه في ترويع الأمم.

ثقافة اعتقدنا جميعاً في عصر العولمة وحقوق الإنسان وثورة الاتصالات والمعلوماتية وسطوة الإنترنت بأنها شيء من الماضي، وأنها لن تتكرر وأن احترام خصوصية الإنسان وحقوقه الآدمية ستصبح حقيقة واقعة لا محالة.

لكن مشاهد الحروب المتعاقبة في العقود الثلاثة الماضية، وجرائم ما سمي بالربيع العربي، وما نراه من عنصرية مستفحلة ومطامع استعمارية مستدامة، لا يبشر بخير، في مسعى واضح لدى البعض للعودة إلى ما يوازي بشاعة متاحف الجثث.

فإسرائيل التي احتفت قبل أيام بنجاح النسخة الجديدة من قمرها الصناعي «أفق»، المخصص لتعزيز العمل التجسسي الصهيوني، إنما تؤكد على مشروعها الاحتلالي الإحلالي.

فتباهيها الكبير بإطلاق الصواريخ ضمن منظومة قائمة على أن ما تطلقه دول أخرى في العالم، ما هو إلا «إرهاب» وتجبّر، بينما ما تطلقه هي مشروع ومقبول، إنما يؤكد على اسطوانتها المشروخة بأن سلاح الغير للهجوم، أما سلاح إسرائيل فهو «للدفاع».

إسرائيل هي ذاتها التي تحتجز جثامين شهدائنا لمدد تصل إلى خمسة عقود وتصادر ماءنا وأرضنا وهواءنا، وهي التي أدارت ظهرها لأكثر من ستين قراراً دولياً، ومارست التنكيل والاعتقال، وبنت المستوطنات ودشنت جدار الفصل العنصري، واعتقلت ما يصل إلى ربع الشعب الفلسطيني في سجونها، وضمت القدس والجولان، ورفضت القبول بعودة اللاجئين، وتنكرت لحدود الرابع من حزيران، ومبادرات السلام وحل الدولتين، وأسقطت حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

هي الدولة ذاتها التي تخطط اليوم لضم المزيد من الأرض العربية في مقامرة جديدة، معتقدة أن التاريخ سيرحمها، وأن الناس ستتنازل عن أرضها وحقها وكرامتها.

إسرائيل المعتدة بعضلاتها وجبروتها وتواطؤ البعض وخيانات البعض الآخر وتفنن مقاولي الحروب ودعم البعض لها، خاصة ممن باعوا شرفهم وكرامتهم، وقبلوا ان يتحولوا إلى أداة طيعة في خدمتها، تعتقد مخطئة أن ما خطته الشعوب بإرادتها كالجزائر، وسكان متاحف الجثث، إنما سيكون عرضة للنسيان ومنصة للتنازل.

اليوم نكافح والعالم وباء كورونا، لكننا نكافح لوحدنا تقريباً وباء الاحتلال، وقد عقدنا العزم على أن نكافح وباء الانقسام، بعد المؤتمر الصحافي الجامع لحركتي فتح وحماس الأسبوع المنصرم، في انتقال متواصل من النكبات إلى الإرادات حتى ترى فلسطين النور، وحتى يرتاح سكان مقابر الأرقام ومتاحف الجثث وسجون الظلم، وحتى تتعظ البشرية فتؤمن بأن الجبروت يقتله فيروس أصغر من ساق النملة، بألف مرة، وأن العين الحرة حتماً ستكسر المخرز لا محالة… الأيام بيننا!