الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

إنزلالقات الوعي الوطني الفلسطيني والمقاربة الجنوب أفريقية

نشر بتاريخ: 08/08/2020 ( آخر تحديث: 08/08/2020 الساعة: 16:50 )

الكاتب: حيدر عيد

علينا، كما السود في جنوب أفريقيا في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، الانخراط في حوارات عاجلة لمحاولة فهم نظام الفصل العنصري الذي نواجهه. ومثلما جادلت الكتلة الأقوى داخل الحركة المناهضة لنظام الأبارثهيد هناك، بالذات المؤتمر الوطني الأفريقي، بأن الفصل العنصري هو نظام هيمنة عنصرية، وأن الكفاح ينبغي أن يتمحور حول القضاء على السياسات العنصرية والمطالبة بالمساواة بموجب القانون، يميل التيار الوطني السائد في فلسطين من، ناحية،إلى التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لمناطق ال67 كاحتلال كلاسيكي من دولة لدولة أخرى, و من ناحية أخرى اعتبار الكفاح في مناطق ال48 نضال من أجل مساواة سياسية. إلا أنه كان هناك أيضاً تياراً من الراديكاليين السود الذين رفضوا التحليل. المهيمن لحزب المؤتمر الوطني, و ركزوا على تحليل الفصل العنصري كنظام "رأسمالية عنصرية" مما يحتم تطوير البرنامج الكفاحي لمجابهة دولة الاستعمار الاستيطاني الأبيض والنظام الرأسمالي العنصري في نفس الوقت، حيث تنبأوا بأن تظل جنوب أفريقيا بعد القضاء على الفصل العنصري منقسمةً ولا مساواة فيها ما لم تواجَه العنصرية والرأسمالية معًا.

فلسطينياً, تتجلى انزلاقات الوعي الوطني الفلسطيني في الفترة الأخيرة في عدم تعامله مع نظام الحكم الإسرائيلي في فلسطين التاريخية وتحديه، و اقتصار ذلك على المناطق التي احتلت عام 1967 فقط. في الحالة الجنوب أفريقية كان لا يمكن تصور طرح "حق" نظام الأبارثهيد في الوجود على 78% من أرض جنوب أفريقيا. أصبح من الواضح أن ما نجح به حل الدولتين على مدار العقود الماضية هو منح الوقت الكافي لتحقيق الأهداف الإسرائيلية و في نفس الوقت منح سكان الضفة الغربية و قطاع غزة أملاً كاذباً بالاستقلال، بشكل يشابه لحد ما دعاية نظام الأبارثهيد بخصوص منحه "شعوب جنوب افريقيا" السود "أوطاناً مستقلة" (بانتوستانات) على ما يقارب 12% من أرض جنوب أفريقيا. و عليه فإن الخطوة الضرورية الأولى الآن تبدأ بتحويل الخطاب السياسي في فلسطين التاريخية من الاستقلال إلى إنهاء الاستعمار الإستيطاني و تجلياته من احتلال و أبارثهيد و تطهير عرقي ممنهج.

و الحقيقة أنه يتحتم علينا تجاوز ثنائية حل الدولة و حل الدولتين كون "الحل"الثاني لا يشكل الحد الأدنى من العدالة المطلوبة حيث أنه لا يجسد حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في تقرير المصير، إلا في حالة تم تخلي اللاجئين الفلسطينيين و سكان فلسطيني ال48 عن حقوقهم الأساسية و المكفولة في القانون الدولي. و هذا بحد ذاته سيناريو لا يقل سريالية عن سيناريو "حل الدولتين." و في حالة تجاوز هذه الثنائية، يبرز سؤال النموذج الجنوب أفريقي و انزلالقاته نحو أبارثهيد اقتصادي-اجتماعي بعد القضاء على تجلياته السياسية من تفرقة عنصرية فجة.

فلا شك أن القضاء على الفصل العنصري المقنن في 1994 واكتساب السود في جنوب أفريقيا المساواة بموجب القانون، بما في ذلك الحق في التصويت، والحق في السكن في أي مكان، والحق في التنقل دون تصريح. وكان ما مرت به الدولة من انفتاح على الديمقراطية يعد إنجاز مبهر لنضالات و تضحيات الشعب الجنوب أفريقي. كما أن العملية الانتقالية هناك قد برهنت على إمكانية التعايش السلمي على أساس المساواة القانونية والاعتراف المتبادل.

و لكن من ناحية أخرى تم ذلك على حساب التعامل الجدي مع هياكل الرأسمالية العنصرية، كما شخصها بعض النقديين الأفارقة، بما فيهم ستيف بيكو و نيفيل أليكساندر. فقد قام حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بتقديم تنازلات كبيرة أثناء المفاوضات مع نظام الأبارثهيد لضمان تاييد النخبة الرأسمالية البيضاء. و هذا بدوره، بالإضافة لتبني سياسة اقتصادية تقوم على أساس إعادة الهيكلة النيوليبرالية، أدى لظهور نخبة صغيرة من القطط السمان من السود، دون أن يؤثر ذلك على النخبة البيضاء القديمة التي عززت سيطرتها على معظم الأراضي والدخل القومي.

من هنا تبرز أهمية و ضرورة المقاربات مع التجربة الجنوب أفريقية التي يتبعها بعض النشطاء و المثقفين الفلسطينيين و اعتمادها على التعريفات القانونية التي تعتبر الأبارثهيد جريمة ضد الإنسانية، و تحتم على المجتمع الدولي مقاطعة النظام الذي يمارسه. كما أن التحولات الدولية منذ نهاية القرن المنصرم تسير باتجاه التحولات الديمقراطية التي تتخطى العرقية و العنصرية...إلخ

و لكن من الضروري أيضاً عدم إغفال محدوديةَ التحول في جنوب أفريقيا و التركيز قدر الإمكان، كما فعل بعض النشطاء النقديين من تيار الوعي الأسود و بعض الماركسيين الجنوب أفارقة، على التعامل مع الفصل العنصري الإسرائيلي كنظام رأسمالي عنصري، بالإضافة للتعريف القانوني الليبرالي. فمفهوم الرأسمالية العنصرية يبرز البنية المشتركة بين مراكمة رأس المال والتكوين العرقي-الإثني-الديني في إسرائيل، ويؤكد استحالة القضاء على الهيمنة الصهيونية أو عدم المساواة الطبقية دون معالجة النظام برمته. بمعنى أن النضال من أجل دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني يتطلب بالضرورة التصدي لاقتصاديات الفصل العنصري من أجل تجنب القيود الحقيقية على عملية تفكيك الاستعمار، و عدم الوقوع في فخ إعادة هيكلة الأبارثهيد. و هذا يتطلب ممن تخطى وهم حل الدولة الوطنية المستقلة على حدود ال67 العمل على صياغة استراتيجيات تتصدى للعنصرية والرأسمالية النيوليبرالية الإسرائيلية . من الواضح، في هذا السياق، أن القوى التي كان من المتوقع أن تتصدى لهذه المهمة، قد مرت بعملية أنجزة، ربيبة الأسلوة، التي نجحت في تحويل الوطنية النقدية لوظيفة براتب شهري، لدرجة تبني الطرح اليميني لمفهوم الوطنية الفلسطينية و حصر ذلك في مفهومي "الاستقلال" و "الدولة الوطنية!" كل ذلك جاء من خلال ثقافة "أوسلوية" لم توفر لا الحرية (67) ولا المساواة (48)، وإنما إعادة هيكلة علاقات الهيمنة بين المستعمِر الراسمالي الأشكنازي الأبيض, و المستعمَر الفلسطيني. ويمكن القول باختصار أن اتفاقيات أوسلوالتي تم الترويج أنها مقدمة للاستقلال الفلسطيني، قامت بتعزيز المشروعَ الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي من خلال خلق حقائق استيطانية على الأرض وصولاً لصفقة ترامب التصفوية و "خطة الضم" الليكودية اللتان وجهتا رصاصة الرحمة لحل الدولتين العنصري.

كل ذلك يستدعي ضرورة التفكير النقدي في عملية التحرير، و ليس الاستقلال، وربط تفكيك الاستعمار الإسرائيلي بعملية التحول من الوعي الوطني إلى الوعي السياسي والاجتماعي، تجنباً للإشكاليات ما بعد الكولونيالية.