الإثنين: 06/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

الخروج عن المألوف في الحراك المقدسي

نشر بتاريخ: 30/04/2021 ( آخر تحديث: 30/04/2021 الساعة: 15:44 )

الكاتب: وائل زبون محاضر في جامعة فلسطين الاهلية

المقدمة

إنّ إغلاق قوات الاحتلال باب العامود، وهو الباب الرئيس المؤدي الى الحرم القدسي الشّريف، أمام المصلين الفلسطينيين وخاصة في شهر رمضان المبارك، قد واجهه مقاومةً غيرَ مسبوقةٍ من الشباب المقدسيّ، كما واجهوا سابقًا إغلاق الحرم الشّريف لفرض آلات التّفتيش الإلكتروني على المصلين قبل دخولهم الحرم، فقد أدت صلابة الوقفة في حينه إلى إلغاء هذه الإجراءات الإسرائيلية الاحتلاليّة، وهنا أوكد أنّ هذا الحراك يشكل عملًا غير تقليدي عن الحراكات الأخرى التي حدثت في القدس سابقًا، ومن خلال الإجابة عن التّساؤل: لماذا يؤدي هذا الحراك خروجًا عن المألوف عن غيره من الحراكات السّابقة؟ إذ يتميز هذا الحراك بالتركيز على ديناميكية التّمرد والتّحدي ضد الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته الاستبدادية بحق المكان والزّمان في المدينة المقدسة وفي مسجدها الشّريف. وهنا أود لفت الانتباه إلى جانب هام من جوانب الحراك المقدسي ألا وهو: البعد المكاني والزّماني للعصيان الذي جسده الشّباب المقدسيّ المناهض للاستبداد بقوة التّمرد والتّعبئة العامة والتّنظيم، من خلال التكوين الذّاتيّ وإعادة بناء المكان والزّمان ضد كل العنجهيّة الاحتلاليّة التي تحاول فرض إجراءاتها على هذا المكان والزمان. والتّمرّد المقدسيّ ضد هذه الإجراءات ليس بالضرورة أن يؤدي إلى زوال الاحتلال بالمعنى المؤسسي؛ لكنّ التّمرّد ببساطة " الاحتلال بالاتجاه المعاكس" وهذا ما تبين من خلال المجال المكاني، والزماني، والخطابي، لما يحدث في ساحة باب العامود وساحات المسجد الافصى المتركز حول البحث عن الكرامة والحرية.

فالتمرد هو انتشار قويّ للشباب المقدسي ضد محتليه وضد استبدادهم، وإنّ مركزية الحراك هي في التمرد ذاته، بصرف النّظر عن التوليد المعلوماتي للمفاهيم التّصاعديّة للهُويّات السّياديّة والتّشاركيّة فإنّ إثبات المواطنة الفلسطينيّة عند الشّباب المقدسي هي في ساحة باب العامود وساحة المسجد الاقصى، مما يؤكد أن هذا الحراك هو اجتماع واجماع شعبي معًا لاستبدال ممارسة الاحتلال الاستبدادية على ساحة باب العامود بإجراءاته المادية والمعنوية كافةً، بفرض وقائع مكانية ومفاهيم ومصطلحات خطابية، وإعادة الاحتلال المعاكس للمكان من خلال هذا الحراك المقدسي.

ويبدو أنّ الوعي النّقدي المستدعى في ساحات الحرم وباب العامود في القدس الشريف يولد متلازمة توحيد الجماهير المتمردة حول روحٍ تلوّح ببداية جديدة للوقوف كشعب موحد في الممارسة والفكر، وربّما الأحلام والمصطلحات، ليشكل خطوة أولية نحو إعادة بناء الذات الفلسطينية الرافضة للخضوع السلطوي للاحتلال حكما وإجراءً.

فقد أثبت هذا الحراك من خلال هذا التحدي المكاني بشكل مميز من التفوق على الدولة الاستبدادية الاحتلالية في إجراءات جادة لفرض السّيادة المكانية في محاولة لتخريب السلطوية السيادية الاحتلالية على المكان والزمان واللغة، وبهذا انتصر الحراك المقدسيّ على المضطهد بالقدرة والإبداع في احتلال الفضاء العام واعادة تشكيل الوقت، مما يعني أنّ هذا الفضاء أكثر من منطقة جغرافية أو ساحة عامّة، بل هو الروح الّتي تنبع منها المقاومة، وممارسة التفكير في الاحتجاج التّحرري الّذي يولّد حالة تغيّر مستمر لإعادة تشكيل ذاتي لمشروع مقاومة الاحتلال.

الفضاء والسّياسة لإعادة هيكلة الشّباب المقدسيّ

ويمكن القول إنّ الحراك المقدسيّ الأخير وجّه ضربةً للاحتلال، وهذا ليس من قبيل المبالغة؛ فبالنّظر إلى القيم الّتي أفرزها هذا الحراك من المشاركة والتّنظيم والتعبئة والتّعبير عن الذات لهو دليل وافٍ على الكيفية التي أجبر بها هذا الحراك السّلطةَ الاستبداديّة أن تتخلّى عن إجراءاتها المكانية لصالحه، فهو يقاوم من أجل أن يعيد الشكل الهندسي الاجتماعي والسياسي لما استهدفه الاحتلال من محاولة فرض السلطة المركزية بقوة الإرهاب على فضاء باب العامود، إذ إنّ هذا الحراك يشكل تعبيرًا قويًّا وينقل رسائلَ تاريخيّةً بحتمية مقاومة أي تغيير قد يطرأ على أية ساحة وأيّ شارع، سواء بتغيير معلمه الحضالري والتاريخي بقوة الاستبداد، أو حتى بتغيير الاسم لمحوه من الذاكرة الجمعية للجمهور وتغييره لأيقونة أخرى، ظانًّا أن باستطاعته إعادة إنتاج المكان على هواه.

فكلّ هذه التغييرات التي أجراها الاحتلال على المكان منذ احتلال القدس قبل 55 سنة من احتكار للسيطرة على الفضاء العام في باب العامود والتّلاعب به، لم تكن بالإجراءات البريئة وإنما كانت محاولة من المخططين المعماريين الاحتلاليين لفرض السيادة المكانية على فضاء باب العامود لما يمثله من دلالات تاريخية ضاربة في عمق الحضارة العربية الإسلامية.

وهنا قد بدأ الحشد الجماهيري المقدسيّ في المدينة والّذي كان عليه أولا استعادة المساحة التي ادعى الاحتلال أنها ملكه ومحور سلطته في المدينة المقدسة، وعليه كان لا بدَّ من إعادة احتلال جغرافيّة (دولةِ الاحتلال) على هذا المكان وإعادة التّصميم على خصوصية المكان من أجل التّنقّل فيه بحرية كتضاريس جديدة للمقاومة الجماعية ضد هيمنته.

ومثلما قامت (دولة الاحتلال) من محاولة تطهير المواطن المقدسي من سلطته وجغرافيته، كان على الحراك المقدسي تطهير دولة الاحتلال من هذه المساحة بالذات، وبهذا تحولت ساحة باب العامود من الفضاء الاحتلالي الاستبدادي الى الفضاء الشعبي المقدسي.

التزاحم الزّماني والسّيطرة على ساعة الاحتلال

في ظلّ الاحتلال القمعي الكولونيالي، فإن الوقت يتبع خطًا مستقيمًا، ومن أجل تحقيق ذلك يقوم الاحتلال مستعينًا بكلّ أنظمته المستبدة من توحيد الوقت كشكل من أشكال إعادة تنظيم الحياة في هوية فردية أو جماعية بشكل مستقر ومركزي، والهدف من ذلك جعل المواطنين فُرادى وجماعات يسيرون برتابة عاليّة، ضمن خطوط مستقيمة وأولويات يفرضها الاحتلال لكي يبقى المواطن يراوح مكانه ولا يستطيع الهروب من الوقت المفروض عليه، من أجل تقويض مفاهيم الانتماء الوطني واستقلالية الولاء لكي يبقى المواطن المقدسي عاجزاً عن فهم ذاته، ولكن الشباب المقدسي وبوعي عالٍ لما يحاول الاحتلال من فرضه كخطوط وقتية وزمانية مستقيمة على الجمهور المقدسي، فإنه يتعامل مع الوقت على أنه سائل متدفق لامركزي، بدلا من كونه مستقرًا ومنظّمًا ومركزيًّا؛ ليعيد امتلاكه للوقت على طريقته، وليتمكن من التّحرر وإزالة استعمار الوقت من خلال البناء الاجتماعي والسياسي للهوية الفردية والجماعية وتنظيم الانشطة الاجتماعية والسياسية بناء على أجندته الزمانية والمكانية لفرض آليات إعادة احتلاله للفضاء في الوقت الذي يراه مناسباً.

الكَرّ والفَرّ بين أهداف الاحتلال وأهداف الحراك

سيكون الهدف النّهائي للاحتلال هو تضييق الخناق على الحراك المقدسيّ؛ لجعله يعمل ضمن عقلية وطنية ثابتة في مساحة محددة ووقت منظم مركزيًّا؛ لإعادة توجيه الوقت بشكل خطوط مستقيمة وذلك بالاعتماد على وكلائهم الموزعين بين شباب الحراك لدفعهم إلى تقليص دافعيتهم للحراك بعد أن يصبح رتيبًا لا تجديد في نشاطاته، وكذلك محاولة الحد من الانشطة اليومية لهذا الحراك لدفعه نحو الاستقرار؛ لكي لا يكون لدى المواطن الكثير من الوقت للتعبير عن رغبته في حياة بديلة، أما الهدف النهائي للحراك فسيكون التجديد المستمر والبعد عن المركزية والاقتراب من العقلية الوطنية دائمة التحرك التي تسير بخطوط غير تقليدية إبداعية غير مستقيمة لا يمكن التنبؤ بها، القادرة على التحكم بالوقت من خلال عمل النشاطات اليومية المختلفة عن سابقاتها التي تجعل المواطن دائم الشغف ليستمر في التواجد المكاني في الوقت الذي يفرضه الحراك دون كلل أو ملل. وبهذا يتمكن الشباب المقدسي من إعادة بناء الهوية من خلال تجاوز ما يفرضه الاحتلال على المكان والزمان من خلال ممارسة تكوين ذاتي في سياق عميق حيث تتضمن عملية التكوين الذاتي من إعادة بناء المكان والزمان ليصبح مكانُ الاحتجاج أو النشاط الاجتماعي ووقته في باب العامود عملًا من أعمال التكوين الذاتي، وباعادة تشكيل هذه الهوية تكون الهوية القديمة الذي حاول الاحتلال فرضها سابقا غير ذات صلة عابرة لا مكان لها بعد الان.

الخلاصة

نخلصُ إلى أنّ الحراك المقدسي كانَ هدفه وضعَ حدٍّ لتلاعب الاحتلال بالمكان والزمان، وأثبت هذا الحراك أنّهما ليسا موضوعين يمكن للاحتلال أن يستخدمهما للتحكم لإنتاج قوة إقصائية او لإعادة بناء المكان كما فعل في بوابات الحرم أو ما عمله مؤخرًا من حواجز في باب العامود؛ ليفرض تحكمه بالمكان واحتكاره للزمان في شهر رمضان المبارك لما له من تاثير على الشباب المقدسي، ولكنْ تمكن هذا الشّباب المتمرّدُ من الإطاحة بتوحيد الوقت الذي حاول هذا الاحتلال الاستبدادي من فرضه، كما أعاد الشّباب المقدسيّ الاحتلال المعاكس للمكان وأعاد تعريف الزمان من خلال إدخال السيولة لمواجهة الثبات الاستبدادي.