الخميس: 02/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

بلدة بيتا ..... الفسيفساء الفلسطينية ذات الطابع الفريد

نشر بتاريخ: 24/06/2021 ( آخر تحديث: 24/06/2021 الساعة: 15:01 )

الكاتب: د. سرمد فوزي التايه

تُطلُّ علينا اليوم بلدة بيتا الشامخة شموخ الجبال الراسيات، والصاعدة صعود النسور المُحلقات فوق السحاب؛ تُقاوم، تُعاند، تُصارع، تطوي صفحاتٍ من الهوان والسكوت اللامقبول؛ لتكون كفاً يلطُمُ مخرز، وشجرةً باسقةً في وجهِ إعصار، وسَدَّاً منيعاً تعترض أمواجاً متلاطمة، ومنارةً تُرشد التائهين في ظل ظلامٍ سرمديٍ دامس.

إنَّ ما يجري في بلدة بيتا هذه الايام من مقاومةٍ عنيفةٍ في جبل صبيح ليس وليد الصُدفة ولا طريح الأمر الطارئ؛ فتاريخ وإرث بيتا يشهد لها بُحسن صنيعها في مقارعة الاحتلال على مرِّ الأزمان والسنون والأيام! فليس بعيدٍ عن اليوم، وقبل حوالي سنةً تحديداً؛ شهدت هذه البلدة الكثير من الفعاليات التي باتت خير شاهدٍ على بسالة أهلها في الدفاع عن أحد أهم جبالها – جبل العرمة-؛ ذلك الجبل الذي كسر السلاسل والقيود قبل أن تُحكَم على معصميه؛ فكان مَنَصَّةً لانطلاق شهدائه سمواً بِحُرِّية وأريحية نحو عنان السماء؛ فكان مَفخرةً ودروس عزٍّ وانتصار! وإذا عُدنا بالتاريخ قليلاً إلى الوراء، وإلى ما يزيد عن ثلاثين عاماً من اليوم؛ فإننا نرى ذلك اليوم البيتاوي بامتياز والذي تكلَّل بدحر الغُزاة المستوطنين حتى لا يكون لهم شرف التنفُّس من أكسجينها المُحرَّم عليهم؛ فخاب سعيهم وممشاهم؛ اذ سَطَّر التاريخ يوم السادس من نيسان من العام ألف وتسعمائة وثمان وثمانون كيومٍ عظيمٍ مُقدسٍ مُحتَكَرٍ لبيتا وأهلها دون غيرها ومن غير مُنازعٍ أو مُنافس؛ أدى لاستشهاد ثلاثة من خيرة أبنائها وقتئذ، ناهيك عن هدم عددٍ من المنازل، واصابة العشرات، واعتقال المئات، وأبعاد آخرين خارج وطنهم.

أما إذا عُدنا سراعاً إلى سنين عديدة مضت؛ فإننا نلحظ أنه لم يكتب التاريخ الفلسطيني يوماً مفصلياً من أيامه إلا وكانت بيتا حاضرةً ذلك اليوم بكل ما أُوتيت من قوةٍ وبأسٍ شديد؛ فكان لها حضورها على مرِّ الأزمان وعبر كل تواريخ الحركة الوطنية التَّحرُّرية منذ بداية القرن الماضي وحتى يومنا هذا؛ فتراها تُقَدِّمُ قرابينها ودماء أبنائها رخيصةً فداء الوطن الغالي المعشوق! حيث شارك أهلها في جميع الثورات الفلسطينية ما قبل الاحتلال الإسرائيلي الغاشم وما بعده وما زالوا يُشاركون ويُقدمون حتى اللحظة؛ فقد شارك أبناؤها في وقعة دوما عام 1937 واستشهد أربعة من شبابها، ثم كان لهم الحضور في معركة جَرَتْ ضد القوات البريطانية على أراضي قرية بيت فوريك سنة 1938 واستشهد أحد أبنائها أيضاً، ثم في معركة المزار قضاء جنين سنة 1948 ومعركة الدفاع عن حيفا في نفس السنة واستُشهد اثنان في أبطالها، وفي سنة 1967استشهد ثلاثة آخرين خلال المعارك التي خاضها الجيش العربي الأردني دفاعاً عن مدينة القدس، وفي العام ذاته استشهد أحدهما في معركة خاضها رجال المقاومة الفلسطينية على أراضي قرية بيت فجّار واستشهد آخر في معركة جبل القرنطل في أريحا، وفي سنة 1968 استشهد أحد شبابها في عمليةٍ فدائيةٍ بمواجهه مع الجيش الإسرائيلي في وادي القلط، واستشهد آخر سنة 1970 في معركة الجحفية، وفي سنة 1976 استشهد اثنان في تل الزعتر في بيروت وآخر في العراق، هذا وقد سالت دماء شهداء بيتا في معارك الدفاع عنها في الاعوام 1988، و1990، و1991، و1992، و1993، و2004، و2006، و2014، و2017، و2020 وصولاً إلى الأحداث الحالية في جبل صبيح والتي أسفرت عن استشهاد اربعة من خيرة شبابها حتى الآن، إضافةً إلى سقوط مئات الجرحى.

إنَّ الباحث المُتبصِّر لما تجري عليه الأحداث الآن في بيتا على وَجه العموم وعلى جبل صبيح على وَجه الخصوص؛ يرى العجب العُجاب؛ فكل مُتبحِّرٍ واصلٍ إلى بيتا أو مُستطلعٍ لأخبارها يُذهل من تلك اللوحة الفسيفسائية المتناسقة التي رسمها أبناؤها جميعاً بغض النظر عن أعمارهم أو أجناسهم أو عائلاتهم أو انتماءاتهم أو وظائفهم ومناصبهم أو أيٍ من مشاربهم! فبنظرةٍ سريعةٍ ومروراً على يومٍ من أيام بيتا المُقاوِمة؛ ترى ثُلةً من الشباب اليانع يفتتح يومه بإشعال الإطارات المطاطية والتي تُكَدِّر على المستوطنين يومهم؛ فتسوءُ صباحهم ومساؤهم! ليتبعهم ثُلَّةٌ أخرى انبروا في المقاومة ومقارعة أفراد الجيش الاسرائيلي المُحتل الذي جاء على عجلٍ ليدافع عن تلك الحفنة الغازية المارقة والتي تُريد أن تكون شوكة في خصر بيتا ولكن هيهات هيهات لهم! فأبطال المقاليع يدويَّة الصُنع، ورُماة الحجارة والزجاجات الفارغة والحارقة لهم بالمرصاد! وقبل أن يَحِلَّ الظلام؛ ترى نساء بيتا الماجدات قد أعددن وجباتهن الغذائية المُساندة، ومياههن العذبة وأرسلن بها الى حُماة الجبل والمدافعين عنه؛ حتى لا يُصيبهم الخَوَر والجوع والتعب ويضطروا لتخفيف حِدَّةِ المواجهات ولسان حالهن يقول: نحن رديفُكم، نحن سندُكم، نحن من ورائكم؛ نقدِّمُ لكم كل الدعم الذي تحتاجونه ولكن لا تبرحوا أماكنكم ولا تنزلوا عن الجبل.

وما أن يحين موعد الغروب؛ حتى تطلع شمس بيتا بل شموسها المُغايرة لشمس العالمين؛ فترى الوحدات البيتاوية تصعد تباعاً سفح ذلك الجبل العنيد وكُلٌ يعرف مقصده ومُبتغاه؛ فترى وحدة الرصد والمتابعة أولاً، ثم وحدة الكاوتشوك ثانياً، ثم وحدة المقاليع والدفاع المُقدَّس، ثم وحدة التحدي، ووحدة الدعم اللوجستي، ووحدة الإعلام الحربي، ووحدة الجندي المجهول المُتمثِّل بإسعاف الجرحى، ثم أخيراً وحدة الإرباك الليلي بخلفياتها العديدة والمُقَسَّمة إلى وحدات الإرباك الصوتي والكاوتشوك والليزر والهتافات والصدح بالآيات القرآنية والاغاني الوطنية والتي تُكلِّل وتُجَمِّل كل تلك الوحدات؛ فتكتمل الصورة، وتخرج بأبها حضور لها أمام العالم كُلّه باعثةً بالكثير من الرسائل الواضحة إلى الكثير من مُتلقيها؛ فتُبرقُ رسالةً إلى المُحتل: نحن هنا ولن نترك جَبَلنا ونحن لكم بالمرصاد، ورسالةً أخرى إلى القيادة: أن هلموا وقِفوا بجانب بيتا -الجرح الغائر والنازف- حتى يتسنى لها الثبات وعدم الإنكسار، ورسالةً ثالثةً إلى أحرار العالم: بأن ما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة. أما الرسالة الرابعة، فهي إلى شباب ونساء وشيوخ وأطفال بيتا ذاتهم: بأن الله معنا ولن يخذلنا، وإننا على عهد الشهداء باقون، ولن نُسلِّم الجبل ما دام فينا طفلٌ قادرٌ على دفع إطار، أو إشعال نار، أو التلويح بعلمِ وطن الفَخار.