الثلاثاء: 16/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

مؤسساتنا ما بين التعرية والصلابة والنفاق !!! .

نشر بتاريخ: 07/07/2021 ( آخر تحديث: 07/07/2021 الساعة: 20:45 )

الكاتب:

مهند أبوشمة

لعل أخطر عوامل الهدم للعمل المؤسسي هو تفشي ظاهرة النفاق المؤسسي، فهي تعتبر من العوامل الرئيسة للتعرية المؤسسية، فهي أشبه ما تكون بعوامل التعرية الطبيعية وما ينتج عنها .

لقد دأب فلاحونا البُسطاء على مدار التاريخ على تحصين أراضيهم من عوامل التعرية الطبيعية خوفاً من انجراف تربتها الخصبة؛ خاصّة المغروس منها ومثاله شجر الزيتون المبارك، إذ يتم التحصين ببناء سلاسل حجارة متشابكة متماسكة مترابطة لتحافظ على تربتها الخصبة، بالتوازي مع حرص الفلاحين على الحد من عوامل التعرية الطبيعية، ولعل الحال ينسحب على مؤسساتنا التي لا بد من الحرص فيها -وفيما يختص بمواقعها الوظيفية- على تحصينها من عوامل التعرية المؤسساتية، للمحافظة على حالة الصلابة والثبات التي لا يمكن الوصول إليها إلا إذا ابتعدنا فكراً ومنهجاً وسلوكاً عن مثبطات الصلابة المؤسساتية من انغلاق فكري، وتكلس وظيفي، وتسلط ،وتنمر، وتغول، وظلمٍ، وولاءات شخصية.

تظهر التعرية المؤسساتية وتتكشف عادة عند حدوث تغيير في رأس الهرم في مؤسسات الخدمة المدنية ، أو المؤسسات العامة، وعندما تكون قد افتقدت لمقومات الثبات والرصانة، فحماية المؤسسة من عوامل التعرية يعني التجذر والتمكين والعمل على بناء الإنسان جنباً إلى جنب مع بناء المنظومة الإدارية وهو ما يسمى بمصطلح "صلابة الإدارة “Resilience” أي الإدارة القادرة على مواجهة التغييرات المتوقعة والمفاجئة؛ والتكيف معها بما يضمن الحفاظ على بنيتها واستمرارها، ويكون أساس الثبات والصلابة مبنيا على التحوّط والتنوّر، والحكمة والمرونة، والاتزان ،والواقعية، والأخلاقيات المهنية، والرشد والحوكمة، والعدالة والمساواة، والشفافية والمساءلة، فالصلابة المؤسساتية المبنية على الكياسة والفطنة تُظهر مدى قدرة المؤسسة على الاستجابة لمتطلبات التغيير والتطوير، فعوامل التحصين والصلابة المؤسساتية تعتمد على الأسس الراسخة في بناء النظم الإدارية المُحكمة والمرنة والقادرة على مواجهة التحديات، وتشكل سدّاً منيعاً للمؤسسة من عوامل الانجراف والانحراف؛ تحت أي ظرف من الظروف، فصلابة الإدارة وثباتها ينبع من مدى قدرة هذه الأنظمة على التكيف السريع عند تغيير قياداتها الإدارية، فالبناء المؤسسي المتين لا يعصف به تغيير أشخاص، ويقوم على قاعدة الانتماء، لا تبعا للولاء الشخصي، والنفاق المؤسسي .

كما أن صلابة الإدارة وثباتها تحمي المؤسسة من التفرد، ومن التعسف في استخدام السلطة، ولا تسمح بوجود المستخدمين المتحذلقين، وتمثل نمطاً لإدارة راسخة متجذرة لا تهزها رياح التغيير مهما كانت عاتية، فمن أبرز سمات صلابة الأنظمة أنها تُبنى على معايير الموضوعية والمساءلة الذاتية، وتبتعد عن النفاق المؤسسي وتصوير المسؤول بأنه النابغة المتميز صاحب الحلول الخلاقة، وتحجب رؤيته عن الصورة الواقعية، وهنا تقع المؤسسة في محظور اتساع الفجوة بين واقع المؤسسة وبين رأس الهرم، لتبدأ تداعيات الفجوة بالظهور، فالمسئول يعيش الوهم والغرور بحكم التقارير المضللة، والمؤسسة تعيش حالة التخبط والترهل، وسوء الإدارة،، ومظاهر الفساد كون المسئول لا يرى إلا بعيون المنافقين، ولا يسمع إلا بأُذانهم ، ولا يتحدث إلا بلسانهم، ليصبحوا هم الحاجب الذي يتحكم في شكل مدخلات ومخرجات النظام الإداري وصُنع القرار، ومن أهم مظاهر النفاق المؤسسي استبعاد الكفاءات من مكانها الطبيعي والعمل على الحد من صعودها باختراع المبررات لشرعنة ذلك ، واستبدالها بالمنافقين غير المتخصصين والأغبياء ، والعمل على ترقيتهم ليصلوا لأعلى المناصب ، ويتبع ذلك الترويج الاعلامي ومحاولة اقناع انفسهم قبل الغير أن ما تم هو الصواب بعينه .

وبذلك يمكن القول إن عوامل الهدم المؤسسي هي نتيجة طبيعية وحتمية لممارسات النفاق المؤسسي، ونذكر في هذا السياق قصة تكريم المخابرات الامريكية لعميلها الروسي الذي كان يشغل وظيفة " وزير الخدمة المدنية " في الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه على ما قام به من أعمال ساهمت في انهيار امبراطورية الاتحاد السوفييتي والتي تمثلت في "تعيين الخريجين في غير تخصصاتهم، وفي غير مجالاتهم والتشجيع على ترقية الأغبياء إلى المناصب العليا مع دعاية إعلامية لهم ، ومنع صعود الكفاءات باختراع حجّة نقص الشروط، ودفعهم إلى الهجرة والابتعاد ، بحيث أصبح يقود مؤسسات الدولة المنافقون والأغبياء ، وكان ذلك سبباً في انهيار المنظومة الفكرية المؤسساتية وبالتالي سقط الاتحاد السوفييتي !!!.

إزاء ما سبق، وللنهوض في مؤسسات الدولة وللحفاظ عليها من الانهيار لا بد من التخلص من سلوك النفاق المؤسسي القائم على إغراق المؤسسة في بحر لجيٍّ من الفشل، مقابل تحقيق المصالح الذاتية الضيقة لغير الآبهين بتحقيق المصالح العامة.

ولابد من العمل على بناء مؤسساتنا من خلال خلق منظومة إدارية قانونية مترابطة متماسكة، قادرة على تحقيق خطط وأهداف وطموحات المؤسسة ضمن إجراءات محوكمة تضمن مخرجات تتوافق ومعايير الجودة الشاملة، ولتكون روابط النظام مؤهلة لممارسة دور الرقابة الذاتية ومنع الاختراقات، وتصويب أي إجراءات لا تنسجم والمعايير والضوابط .

وبالتوازي مع إعداد الأنظمة والقوانين؛ ولتحقيق التكاملية بين البناء المؤسسي والموارد البشرية هناك مسئولية كبرى تقع على عاتق مؤسساتنا وتُحتم عليها الاستثمار الأمثل في رأس مالها البشري لترتقي وتتحصن ولتصبح أكثر صلابة وقدرة على محاكمة إجراءاتها بذاتها، والتحصّن بضوابط الحيطة والحذر الذاتية التي تمنع الاختراق والانزلاق في غياهب سوء الإدارة ، ومما يعزز صلابة الإدارة أن مقدرات المؤسسة هي ملك لها، وأن موظفيها هم رأس مالها، وأن علاقة المؤسسة بمسؤوليها هي علاقة تعاقدية قانونية وأخلاقية، ولا تبيح لأي من مسؤوليها تملكها واستباحة مقدراتها .

فلا نجاح ، ولا تقدم ، ولا تميز في أداء المؤسسة بكفاءة وفاعلية دون تطوير الفكر البشري ليكون الرافعة الحقيقية لأي تغيير أو تطوير في بنية النظام المؤسسي.