الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

(اشيرة) صراع الالهة الكونية بأرض التين والزيتون والرمان ...

نشر بتاريخ: 04/08/2021 ( آخر تحديث: 04/08/2021 الساعة: 10:05 )

الكاتب: يونس العموري

وللإبداع عنوان، وتكون الحاجة الملحة للإبداع في ظل واقع الانحطاط والانهيار والتيه والتوهان وفي مرحلة العجز، نبحث عن ابداعات تعيد لنا التوازن مع الذات لتشعرنا بالقدرة على النهوض والاستنهاض وممارسة الحياة التي لابد ان نستطيع اليها سبيلا..

وكان لنا الموعد الجميل على رابية من روابي المدينة وحكاية الفن المحاكي للواقع باستحضار الماضي والاسطورة وكانت الأقصوصة لمحاكاة وقائع المرحلة حيث القول الفصيح بالقول البليغ نحن هنا وسنظل هنا برغم الآهات والتأوهات وكل أفعال الشياطين..

ادركت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية حقيقة مهمتها بترسيخ هوية الابداع في منظومة مفاهيم الهوية الحضارية الضاربة جذورها بأعماق التاريخ ، وهي الحامية لمنصة الابداع والنقش في اساطير التاريخ لتأكيد الرواية الكنعانية اليابوسية ومواجهة التنين القادم من عوالم مواجهة الحب والحياة والاغصان الخضراء ، فكانت ( اشيرة ) التي تعود حكايتها الى اساطير بلاد كنعان حيث الفتاة الجميلة بحكاية مروية تمنحها الاقدار شجرة الرمان فتهبها للناس ، وتُعاقب على ذلك بإرسالها إلى العالم السفلي وتعذب بالنسيان، وتمر أحداث القصة بمتغيرات عديدة من بينها دمار المدينة وهجرة الناس، ومحاولة استعادة "أشيرة" والنهوض من جديد، وذلك من خلال أدوات فنية تعبيرية متعددة وفي سياق إبداعي بصري ، وقد استطاعت فرقة الفنون ان تحاكي العملية الإبداعية الفعلية للعرض المُبهر وان تحتل المكانة الأبرز في تحويل الأسطورة الى عمل فني رائع من خلال الرقص والموسيقى المنسجمة مع ايقاعات نابضة تأخذك الى عوالم الإحساس بعبق التاريخ واسقاطه على الراهن دون ضياع جمالية النص وضياع المعنى ، ولابد لك وان تشاهد هذا العرض ان تستحضر كل حواسك البصرية والسمعية وتلك التي لها علاقة بالخيال ورسم الصور لماهية اللحظة الراهنة.

جاء عرض اشيرة الرائع ليعطينا الكثير من الامل لاختراق جدران الانحطاط الراهن للمشهد العبثي الذي نحيا في كنفه ، وهو الدعوة للحياة والتحدي ... وهو الدعوة للفرح وسط كل أشجان وأحزان الكنعاني الرابض على التلال ... فأن يكون هذا العرض وبشكل استثنائي وغير مسبوق وفي ظل كل هذا الخراب ، فهو الاعتراف المباشر ومن الكل ان للأرض السمراء واجب الحياة في محاولة لاستنهاضها من الخراب والتخريب، وسط كل هذا التشويه، الذي يطال ما يسمى بالوطن، هذا الوطن الذي صار ساحة لممارسة اعتى اشكال العهر السياسي والفجور الكلامي، فعاصمة كل الحضارات رمز الكنعانية الضاربة جذورها بعمق الاساطير المغناة وتلك المروية ، تحاول ان تستنهض العزائم من خلال الدعوة للفرح بألوان قرمزية تعكس اساطير حكاياتها، فقد ظلت تنتظر فرسانها منذ ان تربعت على عرش المدائن، في محاولة منها لاختلاس الفرح وممارسة الحياة ان استطاعت الى ذلك سبيلا، واشيرة الاله ، لم تتوقف عن صناعة الحياة بفرحها وصخبها وتناقضاتها.

وخفافيش الليل في حضرة ارض التين والزيتون والرمان يمعنون في تشويه الصورة ومحاولة قلب حقائقها، فمنذ ان كان اغتصابها، وصرخاتها ترتد عن جدران ازمانها في محاولة منها لاستثارة عزائم الأحرار وصوتها يدق نواقيس صناع القرار، وعجوز ما زالت رابضة بالمكان تأبى الا ان تسطر حكاية اخرى من حكايا عجائز المدينة، وطفل يلهو بزقاق المعبد يصرخ ضاحكا عابثا فقد دعته للهو في ظل امتزاج الدمع والقتل وهدم البيت الآمن صانع حياة الحب ....

وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية لها ان تنطق باسم الثقافة والإبداع منذ ان كانت وتكونت وتشكلت رسالتها ، فهي من تستحضر أتون التاريخ ليكون الشاهد على كنعان وعروبة الهوية وايقونة العذراء، وقد تكون اسطورة ( اشيرة ) وحكايتها من نقشت مزامير اسفار تكون ابجديات العدنانية بلغة الضاد على معابر المدائن وبمعابد يذكر بها اسمه، وهي من تغنت بالقدس وروت حكاية مشعل وجفرا ، وقالت كلمتها بمرج ابن عامر ، والاسطورة المغناة اليوم ( اشيرة ) من خلال ابداع الرقص والغناء والرواة حكاية لعاصمة الله على الأرض التي اختزلت المسافة ما بين الأرض والسماء وكان للنبي العربي جولات بترتيل كلام الله، من القدس كان الصعود للقاء كل انبياء الله ليتقدم العربي الصفوف اماما مصليا بمحراب المسجد العتيق منذ ان هبط ادم الأرض واعلن عن لغة الكلام بحضرة الانسان ...

وانت تغوص بكل جوارحك بهذا العرض العظيم يكون القرار بأن تجوب شوارع المدينة المقهورة عند اول الصبح وتشفق على نفسك من مسيرة العبور نحوها، ولكنه الشوق الذي يدفعك للانتظار، فأنت على موعد مع اسوارها ورائحة عطرها المتطاير مع نسائم العليل، فللقدس عبق معتق وكأنها المتفاعلة وبخور العود والعنبر وعظماء من سكنوا حواريها ومن صلوا تضرعا للرب في معابدها، وكأنها قد ايقنت ان للتاريخ كلمة في مسيرتها فأطلقت العنان لحجارتها ولأرصفتها بانبعاث هذا العبق الذي لا يتكرر الا في قدس الجلجلة. ... وتحاول البحث عن شجرة اشيرة الرمانية باعثة الحياة والحب ... وتحاول ان تكشف عن اسرارها ولما كل هذا العشق والدم المسفوك على جوانب هوامش تاريخها...؟؟ وتعجز عن ايجاد التفاسير لمكنوناتها، وبلحظة تجدك مستسلما لإرادتها.. فالله منحها الحياة برغم الداء والقهر والهدم وتحدي إرادة الحياة ومنحتها الألهة اسرار المكوث والصمود، وهي التي حاولت ان تتحدى القرار بالبقاء وصناعة المواثيق بالاستطاعة الأبدية ...

وقد تكون (اشيرة) تسكن هناك بالقرب من الظلم على شواطئ غزة ببلاد النخيل والفقر، وقد تتمظهر على قمة الكرمل، فهي الكنعانية الحافظة لأسرارها، ولكنها حتما تعيش في كنف القدس، وفي القدس انت مسلوب الإرادة ولا حول ولا قوة لك الا انت تمضي مستسلما بالسير خلف كواليسها لتكتشف عظمة اريجها، وتحاول ان تكشف عن عظماء عبروا ونقشوا ايقونات ابداعاتهم بتاريخها وسطروا ملاحم فقراء كل العصور فكان لهم الخلود كطعم النبيذ المعتق في خوابي صوامع أديرتها.... والرقص من قبل سفراء الإيقاع الجميل المحاكي للعقل والوجدان (فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية) استطاعوا ان يأسروك ويحشروك لأكثر ساعتين دون كلل او ملل، وانت الباحث عن النتيجة، لتجد ذاتك انت النتيجة وانت المحصلة في معادلة الوجود للحياة برغم الألم والقهر، وان تطرب وتبتسم بلحظة فذاك يعني نجاح العرض، وان تحزن وتغضب فذاك التفاعل الإنساني مع جدتك اشيرة الرافضة المتمردة مانحة الحياة ...

وهنا لابد لنا ونحن نحتفي بإبداعات الفنون الشعبية ان نخترق جدران الصمت الذي ساد ونمارس ضجيجنا وصراخنا، فالصراخ بصحاري تيهنا، صراخا مكتوما مرتدا نحو حناجرنا ... فبكل لحظة نكتشف اننا في هذا الوطن امام التيه ذاته.. وإننا ندور في الحلقات المفرغة.. بفعل الانهيار المستمر بلا قاع .