الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

نكبتان وعيدا ميلاد

نشر بتاريخ: 15/05/2022 ( آخر تحديث: 16/05/2022 الساعة: 00:01 )

الكاتب:

الكاتب:مصطفى بشارات

أنا هنا أحكي عن نكبتين إحداهما عامة والأخرى شخصية وعن عيدي ميلاد الأول حقيقي والثاني رسمي. وإذا كانت الثنائيات والتناقضات في عصر ما بعد الحداثة وصلتا إلى أقصى درجات التجلي، فإن الفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال يعيشون واقعا مركبا من الأضداد ليس في العالم مثيلا له.

من "سخريات القدر" – والتعبير هنا مثال على المفارقات خصوصا عندما تكون صادمة ولا علاقة له بإيماني الراسخ بالقضاء والقدر ـــــ أن يتزامن حلول عيد ميلادي مع ذكرى النكبة الفلسطينية، وهذا العام، تحديدا، كانت مفارقة حلوله بهذا التوقيت بالذات مضاعفة وصادمة أكثر، كونه جاء غداة الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها الزميلة الصحافية شيرين أبو عاقلة، وما زاد الجريمة بشاعة والصدمة وقعا أن الاغتيال الذي تعرضت له شيرين وقع مرتان: الأولى حين تم إطلاق النار عليها واستشهدت، والثانية عندما جرت المطاردة الطويلة لجثمانها قبل أن توارى الثرى وترتاح راحتها الأبدية.

لكن ماذا عن الواقع الخاص والمعقد الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، وما علاقته بعيد ميلادي؟

دائما ما كان يساورني التردد والخجل قبل الاعلان عن حلول عيد ميلادي؛ فأن يكون شعب بأكمله منشغل بتذكر كل الويلات وأنواع الظلم التي تعرض لها منذ احتلال بلاده عام 1948 ويأتي شخص ليحتفل بعيد ميلاده، هو بمثابة فعل أناني لإرضاء نوازع محض شخصية!

على الدوام كان يذكرني ذلك بـ "الخمير الحمر"، هذه الجماعة التي حكمت كمبوديا لفترة قصيرة قبل الاطاحة بها، وهي جماعة حكمت وفق التوجهات الماوية – نسبة إلى توجهات الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ – وكانت تعاقب أعضاءها إذا أضمر أحدهم إقامة علاقة عاطفية دون علم مسؤوله في الحركة. لست متأكدا من هذا الادعاء؛ فالتاريخ يكتبه الأقوياء، ويلجأ هؤلاء الأخيرون، وعادة ما يكونون مستعمرين، إلى شيطنة خصومهم!

على ذكر التاريخ فإنه بالمجمل مزور والأكذوبة التي قامت على أساسها "إسرائيل" وعانى شعبنا ولا يزال جراءها، مثال صارخ على كذب التاريخ والتزوير الفادح الذي يتعرض له.

هذا التزوير مثل سمة لكل شيء في عصر ما بعد الحداثة؛ فعلى الدوام كان للتاريخ فيه وجهان: واحد حقيقي، مسكوت عنه، والآخر رسمي، متداول ويجري الترويج له على نطاق واسع!

متأخرا جدا، قبل سنوات فقط، عرفت أن عيد ميلادي المدون في شهادة الميلاد الرسمية لم يكن الخامس عشر من أيار – يوم النكبة الفلسطينية – بل يوم الخامس عشر من نيسان – الشهر الذي يكون فيه ربيع فلسطين في ذروته – فقد ولدت في (أم العبر)، وهي منطقة لا تبعد إلا بضع أمتار عن نهر الأردن، إلى الغرب منه، وفي حين كانت المنطقة مأهولة بالسكان الفلسطينيين – خصوصا من طمون وطوباس – الذين عملوا بالزراعة قبل نكسة عام 1967، أصبح عددهم الآن بضع عشرات بعد أن رحلت "إسرائيل" غالبيتهم العظمى وتسعى، بشكل حثيث، لإكمال ترحيل الباقين، والحجة أن المنطقة حدودية ومنطقة تدريبات عسكرية، بينما هي سمحت، في المقابل، بإقامة بؤر استيطانية في المكان. أعرفتم الآن كيف يزور التاريخ وتستخدم المعايير المزدوجة؟!

على أية حال: حين ولدت في هذه المنطقة التي تبعد عدة كيلومترات عن بلدة طمون التي ينتسب إليها والدي – أمد الله في عمره – تأخر تسجيلي لشهر كامل إلى أن تمكن الوالد من الذهاب إلى البلدة – كانت السيارات وقتها محدودة والطرق وعرة ويعيش الناس ظروف فقر قاسية – ودون بيانات الولادة لكن بتاريخ جديد هو يوم وصوله إلى بيت المختار الذي كان يملك "الختم الرسمي"؛ وبذلك أصبح تاريخ ميلادي رسميا وليس حقيقيا، ووقعت ضحية لتزوير التاريخ. ليس؛ فكلنا ضحايا لتاريخ مزور علينا التحايل عليه ما استطعنا حتى نتخلص من ظلمه، وما بقاؤنا، نحن الفلسطينيين، رغم كل المؤامرات ومخططات التصفية والمجازر التي تعرضنا لها إلا دليل على عظم صمودنا وعلى قدرتنا الهائلة على اتقان لعبة التحايل على التاريخ!!

فعلا. كنت أتحايل على ترددي وخجلي فأقول متندرا "يوم وقعت نكبة شعبي كان مولدي بشارة أمل على غد أجمل قادم". كان يضحك من يسمع تعليقي هذا دون أن أعرف إذا كان يضحك سخرية لكن، بدوري، كنت أضحك لوعة!

نعم. فكرت أن أصحح هذا التاريخ – تاريخ مولدي – إما رسميا – لدى الدوائر الحكومية ذات العلاقة – أو شخصيا بأن أعود نفسي على الاحتفال به يوم ميلادي الحقيقي، لكن الأمر لم يتعد مرحلة التفكير. كنت أعرف أن الأمر لا يكلف كثيرا وغير متعب لكن المشكلة أني لم أحاول بذل أي جهد بسبب الكسل وشعوري بلا جدوى الأشياء. لقد انتابتني حالة من خواء الرغبات كنت أتوق فيها لاستشعار أدنى قدر من الدهشة التي تمثل أجمل شيء في حياة الانسان، واكتشفت، في حالتي أنا، أن الدهشة ارتبطت بطفولتي وعندما كبرت واختبرت معنى أن أعيش في بلد محتل، قلما كان ينتابني هذا الشعور الانساني العظيم!

بالعودة للنكبة فقد عرفنا النكبة الأولى العامة والتي تتعلق بالشعب الفلسطيني، وعرفنا ماذا أعني بعيدي الميلاد، لكن ماذا عن النكبة الثانية والتي قلت إنها شخصية؟

ببساطة شديدة، بساطة متناهية لا تعني إطلاقا عدم اعترافي بالموت الحقيقة الوحيدة في هذا الكون المليء بالأكاذيب، شعرت بالصدمة، صدمة كبيرة جدا، حين جاءني خبر استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة، فأنا أعرف شيرين أكثر من مرة، الأولى وهي زميلة على مقاعد الدراسة في جامعة اليرموك، والثانية وهي زميلة في إذاعة صوت فلسطين، والثالثة عبر قناة الجزيرة بعد أن انتقلت للعمل فيها – رحمها الله – لذا حق لي أن أشعر بالصدمة، صدمة مضاعفة، ومركبة، وعميقة، صدمة تركت كميات كبيرة من الحزن الذي ترسب تحت مسام جلدي وفي أعمق أعماق نفسي.

لكن يحدث أن تكون هناك صدمة أخرى مغايرة رغما عن الحزن الذي لا يغادرنا وأن بدى متواريا، الصدمة الأخرى هي تلك التي انتابتني وأنا أشاهد جنود الاحتلال وهم يطاردون جثمان الشهيدة، وحملة الجثمان، والسيارة التي أقلته لاحقا، والمشيعين، ورافعي الأعلام، والجماهير الغفيرة التي كانت تهتف حبا للوطن ووفاء لشيرين، يطاردونهم ويعتدون عليهم كما الكلاب المسعورة!

كانت تلك الصدمة من النوع اللذيذ، صدمة أشعرتني بالفرح والعز وعززت ثقتي بالنصر وأنا أطالع هؤلاء الجنود الذين شعرت بأنهم كانوا يسقطون بينما كان النعش يرتفع فوق هامات المشيعين، ثم يسقطون وعلم فلسطين يرتفع، ثم يسقطون والهتافات تتعالى.. وكانوا يسقطون.. ويسقطون إلى أن تلاشوا..!

قلت لا بأس إذن، لا ضير أن أحتفل بعيد ميلادي فتباشير النصر هلت ولا نكبة ولا نكسة بعد اليوم، وحين رن هاتفي، وكان أحد الأصدقاء على الطرف الآخر يقول "عيد ميلاد سعيد صديقي مع إنك نكبتنا" ضحكت هذه المرة، ضحكت من أعماقي، وندت عني دمعة امتزج فيها الحزن بالفرح وتراءت عبرها شيرين التي كانت تبتسم لي وتسخر منهم!