السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

تهجير مسافر يطّا ـ مرحلة أخرى من النكبة، بختم محكمة العدل العليا

نشر بتاريخ: 15/05/2022 ( آخر تحديث: 15/05/2022 الساعة: 19:58 )

الكاتب:

حجاي إلعاد

"D-9" (المعروف بالعربيّة باسمه نفسه "دي ـ نايْن") هو صنف معيّن من الآليّات الهندسيّة. قيادة جرّافة كهذه إلى منزل فلسطينيّ تحتاج إلى رُخصة إسرائيليّة خاصّة. الأمر نفسه ينطبق على الحفّار، إحدى الجرّافات التي تستخدمها الإدارة المدنيّة لإتلاف الطرق الترابيّة المتواضعة وتمزيق أنابيب المياه البائسة التي يمتلكها الفلسطينيّون في تلال جنوب الخليل. كذلك تحتاج مكنسة الشوارع - كتلك التي يستخدمها قضاة المحكمة العُليا لتلميع ضمائرهم - إلى رخصة إسرائيليّة خاصّة.
ولكن لم يُتوصَّل بعدُ إلى اختراع المكنسة القادرة على تلميع طرد ما يزيد عن ألف إنسان من منازلهم وتدمير تجمعّاتهم؛ أعني الفلسطينيين سكان منطقة الصّحراء في تلال جنوب الخليل، مسافر يطّا، والمعروفة باسم "منطقة التدريبات العسكرية رقم 918" بموجب الأمر العسكريّ الذي أعلنها كذلك وبموجب القرارات المُخجلة التي صدرت عن محكمة العدل العُليا عشيّة الذكرى الـ 74 لاستقلال إسرائيل (أيّار2022). بعد إجراءات ومداولات قضائيّة استمرّت أكثر من عشرين عاماً، قرّر القضاة في القدس منح الحكومة الضوء الأخضر، الذي لا يستطيع أحد سواهم منحه، لتنفيذ جريمة الحرب المتمثّلة في النقل القسري.
لا يظنّنّ أحد أنّ تنكيل إسرائيل بالفلسطينيّين وسعيها لسلبهم أرضهم قد توقّفا خلال سنوات الإجراءات في المحكمة العليا. فقد طولِب السكّان بتجميد حياتهم – عدم إنشاء أيّ بناء، تجاهل عائلاتهم التي تكبر، تجاهل حاجتهم إلى بنىً تحتيّة أساسية وضرورية للحياة. أي، بكل بساطة ـ أن ينتظروا سنوات تزيد عن عمر جيل كامل، أن يشاهدوا طوال هذه المدّة كيف تزدهر من حولهم المستوطنات والبؤر الاستيطانيّة وهي تتمتّع بالكهرباء والمياه والميزانيّات. وفي ظل انعدام أي خيار آخر، كان كل مَن شيّد مبنىً مضطراً إلى العيش في رُعب دائم بانتظار أمر الهدم الذي ستُصدره الإدارة المدنيّة. وبمعزل عن هذا الواقع، قرّرت المحكمة أنّهم أخذوا القانون بأيديهم واتّهمتهم بـ "انعدام النزاهة ونظافة الأيدي"، كما كتب القاضي دافيد مينتس بنزاهة ويدين نظيفتين وضمير نقيّ بالتأكيد.
وكيف لا تكون ضمائر القضاة نقيّةً فيما كلّ شيء ـ كلّ شيء ـ قانونيّ؟ ذلك أنّ القانون الذي وضعه الجيش لنفسه قد صاغ وثبّت "صلاحية القائد العسكريّ بأن يأمر بإغلاق منطقة". حرفيّاً، بكل بساطة. والأنكى من ذلك أنّ هذا لمصلحتهم، أصلاً! - حسبما يوضح القاضي مينتس: "صلاحيّة تنهل، فيما تنهل، من واجب العناية بسلامة وأمن السكّان في المنطقة". هذه العناية الرّحيمة هي التي جعلت إسرائيل تؤمّن سلامة رعايا فلسطينيّين - كيف لا؟ - عبْرَ تدمير حياتهم. اليد النظيفة التي دبّجت هذه الكلمات لم ترتجف بالتأكيد.
حين كتب عبارة "السكّان في المنطقة" ربّما كان القاضي مينتس يفكّر بنفسه هو أيضاً. فهو من سكّان مستوطنة "دولِـڤ". غير أنّ زميله في هيئة القضاة، القاضي يتسحاق عميت، قد فعل خيراً حين حرص على أن يدسّ في قرار الحكم القضائيّ اقتباساً من كلام النقيب (احتياط) دَفنة بَراك - التي أصبحت في لاحق الأيّام زميلتهم على كرسي القضاء في المحكمة العليا، القاضية دَفنة بَراك إيرز – بغية تذكيرنا بأنّ جميعهم شركاء في عملية تلميع وشرعنة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين، سواء كانوا "ليبراليّين" أو "محافظين"، مستوطنين أو تل أبيبيّين، على حدّ سواء. ذلك أنّ "السكّان في المنطقة" - في كلّ المنطقة - هم نحن، اليهود. أمّا الفلسطينيّون فمدعوّون إلى "التوجّه إلى القائد العسكريّ للحصول على تصاريح دُخول إلى الأراضي التي هي بمُلكيّتهم أو بحوزتهم". وليكن بالنّجاح لهم، كما يُقال؛ أو، بالترجمة وفق ما يفعله اليهود بالفلسطينيّين منذ العام 1948: أراضٍ كانت مُلكاً لفلسطينيّين وتُصبح في حوزتنا - في الجليل والنقب والأغوار، في القدس وفي الشيخ مونس. والآن في مسافر يطّا، أيضاً.
"جرّافات الجيش هدمت كلّ شيء في الخربة. لقد هدموا مغارتنا التي كانت تتّسع لـ 500 رأس من الماشية، إضافة إلى أربع آبار مياه وعرائش، كما صادروا ممتلكاتنا وطردونا من المنطقة. لكن أنا وأولادي الثلاثة لم نغادر. اختبأنا طيلة 17 يوماً قرب الخربة ثم عُدنا إليها في ساعات اللّيل".
هذا الوصف الذي تقشعر له الأبدان ليس من نكبة 1948. إنّها فاطمة أبو صبحة التي تحدّثت إلى باحث بتسيلم الميدانيّ عن عمليّة التهجير الكبرى التي نفّذتها إسرائيل في مسافر يطّا في نهاية العام 1999. في ذلك الوقت كان إيهود باراك رئيس الحكومة وبطبيعة الحال، كان ذلك التهجير الوحشي جزءاً من "عمليّة السّلام" التي جرت آنذاك مع الفلسطينيّين، كما تذكرون. رئيس الحكومة الآن هو نفتالي بينت، المربّي الذي ارتأى بالضبط أن يشرح للفلسطينيّين كيف أن "وضعهم سيكون مختلفاً تماماً… لو أنّهم فقط يستثمرون في بناء مستقبلهم عُشر الطاقة التي يبذلونها لإزعاجنا".
لقد بذلت إسرائيل وما زالت تبذل وسوف تبذل غير قليل من الطاقة في "إزعاج" الفلسطينيّين في كلّ مكان تطمع فيه بأراضيهم بين النهر والبحر، بهدف سلبهم وتجريدهم. تختلف الذّرائع من حين لآخر ومن مكان لآخر - أحياناً هُم [الفلسطينيّون] "يهربون"، أحياناً يكون الأمر مطلوباً لبسط "سُلطة القانون" وأحياناً من أجل مصلحتهم هم أصلاً - لكنّ الأيديولوجيا باقية على حالها، هي نفسها. هذا هو سبب الفهم القائل بأنّ النكبة لم تكن حدثاً منفرداً لمرة واحدة وانتهى، وإنّما هي عمليّة متواصلة تبني إسرائيل بواسطتها مستقبلـَها. بضمير قذر تُصدر إسرائيل لنفسها رخصة للتعامُل مع الفلسطينيّين على هذا النحو، بينما رئيس الحكومة هو الذي يقود الـ D-9، يساريّاً كان أم يمينيّاً، ورئيس أركان الجيش يقود الحفّار وقضاة المحكمة العليا معاً يقودون مكنسة الشوارع. هكذا يشقّون ويعبّدون هنا طريق التفوّق اليهوديّ منذ 74 عاماً.

* حجاي إلعاد هو مدير عامّ مركز "بتسيلم".