الكاتب: سهيل سامي خليلية
التحول الرقمي… بوابة الأغنياء وطريق الفقراء إلى التهميش
نظرة عامة
يشهد العالم في العقد الأخير تحولا متسارعا نحو مجتمع خال من النقد، مدفوعا بجملة من العوامل التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية، في مقدمتها التطور الهائل في تقنيات الدفع الرقمي، وانتشار الهواتف الذكية، وتوسع البنى التحتية للاتصالات. هذا التحول ليس وليد اللحظة، بل امتداد لمسار تاريخي طويل بدأ مع المقايضة البدائية، ومر بمرحلة العملات السلعية والمعدنية، ليصل اليوم إلى منظومات متكاملة تعتمد على الدفع اللا تلامسي (NFC) وشفرة الاستجابة السريعة (QR)، التي انتشرت بسرعة أكبر بعد جائحة كوفيد-19.
وتروج هذه التحولات الرقمية على أنها محفز للشمول المالي، وتقليل الكلفة التشغيلية، وزيادة الكفاءة والشفافية، وهي بالفعل تقدم حلولا جزئية في بعض السياقات. إلا أن الوجه الآخر لهذا التحول يطرح تساؤلات جوهرية حول الخصوصية، والمساواة، ومخاطر التبعية الرقمية، لا سيما في مجتمعات غير مهيأة بنيويا للتحول السريع.
السياق الفلسطيني: تحول رقمي في ظل أزمة هيكلية
في فلسطين، يبدو الحديث عن مجتمع غير نقدي مفارقة قاسية في ظل أزمة اقتصادية خانقة. إذ يعاني الاقتصاد الفلسطيني من تراجع خطير في الإيرادات، وتضخم في الديون، وعجز مالي مزمن. بحسب تقارير البنك الدولي، فإن الوضع المالي يقترب من مرحلة الانهيار الهيكلي، مع غياب أفق للإصلاح الاستراتيجي.
لكن الأثر الأعمق يتجلى في حياة أكثر من 135000 موظف حكومي، يعانون منذ سنوات من تقاضي رواتب مجتزأة تتراوح بين 50% و80%، في المئة مما دفع الغالبية العظمى منهم إلى الاستدانة من البنوك لتأمين حاجاتهم الأساسية. وتقدر قيمة هذه القروض بأكثر من 1.8 مليار دولار، في الوقت الذي تراكمت فيه ديون الحكومة نفسها تجاه موظفيها بأكثر من 8 مليار شيكل.
وبينما تتحول الرواتب إلى أقساط خدمة ديون، وتتآكل القدرة الشرائية، تشل السوق المحلية، ويتفاقم الانكماش الاقتصادي، ويخسر المجتمع أحد أبرز أعمدته الاستهلاكية. وتغدو المصارف عالقة بين مطرقة الدين الحكومي وسندان ديون الموظفين، في مشهد يعيد إنتاج التبعية البنيوية بدلا من معالجتها.
تباين الأثر: مقارنة بين المخاطر والسلبيات الرئيسية لمجتمع خال من النقد والفوائد غير المتكافئة للنخب الثرية وقطاعات الأعمال
رغم ما يحمله التحول الرقمي من وعود بالحداثة والقفز نحو العدالة المالية، إلا أنه يخفي في طياته تحديات عميقة، فإذا كان الخطاب العام يروج لمجتمع خال من النقد باعتباره حلا شاملا يعزز المساواة ويحل مشكلات الشمول المالي، يكشف الواقع على أرض الميدان أن أكبر المستفيدين من هذا التحول هم النخب الثرية والمؤسسات الكبرى، بينما تواجه الفئات الضعيفة والمهمشة مخاطر حقيقية وأعباء جديدة لا يملكون أدوات المواجهة أو القدرة على الاستفادة من مزايا التحول إلى مجتمع رقمي خال من النقد.
السلبيات على المجتمع
فوائد النخب
اختفاء الخصوصية المالية
كل معاملة رقمية تنتج أثرا رقميا يمكن تتبعه وتحليله، ما يمنح الحكومات والشركات سلطة هائلة على السلوك الاقتصادي للأفراد. في غياب قوانين حماية بيانات صارمة، يتحول المواطن إلى كائن مكشوف اقتصاديا.
1
تقليص التكاليف وتعظيم الأرباح
الشركات الكبرى تتخلص من خسائر تتكبدها جراء من التعامل بالنقد (الباعة المتجولين والعاملين في قطاع النقل، والمهن الصغيرة والمتوسطة ..الخ)، وبالتالي تهدد بطرد آلاف العاملين من وظائفهم دون تعويضات أو خطط تأهيلية، خاصة العاملين في الخطوط الأمامية.
تهديدات الأمن السيبراني
الهجمات الرقمية تضاعفت بشكل غير مسبوق. ومع ارتفاع استهداف الحسابات البنكية، وخاصة في بيئات هشة كفلسطين، يصبح الموظف المديون سواء في القطاع الحكومي او الخاص هدفا سهلا للابتزاز أو الاحتيال.
2
تحويل بيانات الأفراد لمواد تسويقية
كل نقرة وكل عملية دفع تنتج بيانات سلوكية تباع وتحلل دون علم المستخدمين. تستخدم في استهداف إعلاني، وتسعير تفاضلي، وبالتالي تضييق خيارات المستهلكين.
الاستبعاد الرقمي والتهميش الاجتماعي
كثير من الفئات: كبار السن، الفقراء، سكان المناطق الريفية، يفتقرون إلى الأجهزة أو البنى التحتية اللازمة للتفاعل مع الأنظمة الرقمية، ما يؤدي الى حرمانهم من الخدمات الأساسية وبالتالي توسيع الهوة الاقتصادية.
3
تضخم أرباح المؤسسات المالية
البنوك وشركات التكنولوجيا المالية تجني أرباحا ضخمة من رسوم التحويل، والفوائد، وخدمات الائتمان، في وقت يعاني فيه المستخدمون من غموض الشروط وغياب الحماية القانونية، وبالتالي ارتفاع نسب الاستغلال.
الرقابة المالية المفرطة
من خلال العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية (CBDCs)، يمكن للحكومات فرض رقابة صارمة على الحسابات الفردية، ومنع التحويلات، وتجميد الأموال، بل والتحكم في أنماط الاستهلاك.
4
ازدواجية في تطبيق العدالة الضريبية
بينما تتم مراقبة مدفوعات الباعة الصغار وتفرض عليهم الضرائب، تواصل كبرى الشركات وطبقة الأثرياء استخدام الحيل القانونية والملاذات الضريبية للتهرب. هنا تتحول العدالة إلى أداة انتقائية بيد الأقوياء.
سيطرة رقمية مركزية وإساءة استخدام التكنولوجيا البيومترية
من خلال العملة الرقمية الرسمية، تستطيع الحكومات منع أو توجيه المعاملات، ما يفتح المجال أمام أدوات قمع اقتصادي لأي معارض أو فئة غير متساوقة "غير منضبطة" مع الرؤية والسياسة العامة. هذا بالاافة الى ان التوسع في استخدام البصمة أو التعرف على الوجه قد يفتح الباب أمام أنظمة مراقبة غير خاضعة للمساءلة، خصوصًا مع غياب وعي رقمي حقيقي لدى المستخدمين.
5
تسارع تهميش الطبقات العاملة بفعل الذكاء الاصطناعي
في ظل تسارع التطورات في تقنيات الذكاء الاصطناعي، باتت الشركات الكبرى والقطاع الخاص يستفيدون بشكل متزايد من الأنظمة الذكية، مثل تقنيات التعرف على الوجوه والبصمات، لإحلال الآلة مكان الإنسان في العديد من المهام التشغيلية. هذه التحولات تحقق توفيرات ضخمة في التكاليف وتعزز الكفاءة والربحية لأرباب العمل، خاصة عبر تقليص الاعتماد على العمالة منخفضة الأجر. ومع غياب استثمار فعّال في التعليم أو برامج إعادة التأهيل المهني، يواجه العاملون في المهن الصغيرة تهميشًا متسارعًا وفقدانًا تدريجيًا لأدوارهم في سوق العمل.
هشاشة الأنظمة الرقمية والبنية التحتية
في حال حدوث عطل تقني، أو انقطاع كهربائي، أو خلل في الشبكة (وهذا امر وارد بشكل كبير) حيث لا يزال الاتصال بالإنترنت ضعيفًا وغير منتظم، فإن المعاملات تتوقف. هذه الهشاشة قد تؤدي في لحظة إلى عجز المجتمع عن الوصول إلى الغذاء، والدواء، أو المواصلات، وبالتالي فان اي محاولة لفرض المعاملات الرقمية بالكامل دون بنية مؤهلة ستكون حكمًا بالإقصاء.
6
السياق الفلسطيني وتعميق الأزمة
في فلسطين، لا يعني التحول إلى الدفع الرقمي مواكبة التطور فحسب، بل هو انعكاس لمزيد من التدهور للبنية المجتمعية. المواطن، خصوصاً الموظف الحكومي، يتحول من فاعل اقتصادي إلى "رهينة بنكية"، راتبه رهين أقساط مستحقة ومستقبله منوط بقرارات بنكية أو مساعدات مشروطة وتغيرات دولية، في ظل غياب تخطيط وطني وتهميش للمجتمع المحلي وغياب بنية رقمية عادلة يصبح التحول الرقمي وسيلة لإدامة الأزمة بدلا من حلها.
النزاهة الاقتصادية
ليست المشكلة في التكنولوجيا ذاتها، بل في الطريقة التي تدار بها وبالتالي تبعياتها على المجتمع. فالذكاء الاصطناعي، والعصر الرقمي، والتعلم الآلي، كلها أدوات محايدة في جوهرها، لكنها تصبح جزءا من بنية الظلم او العدالة حسب من يملكها، ومن يتحكم في توجيهها. وهنا تكمن المعضلة: حين تتحول التكنولوجيا من وسيلة لتحسين الحياة إلى أداة بيد النخب الاقتصادية والسياسية لتعميق الفجوة بين الطبقات، تصبح ثورة رقمية بلا ضمير، تفكك الروابط الاجتماعية بدلا من أن تعيد ترميمها.
الانتقال إلى مجتمع رقمي لا يجب أن يترك ليدار بقوانين السوق وحدها أو يرتهن بقرارات نخبوية تقصي الغالبية العظمى من الناس. إنه قرار سياسي وأخلاقي بامتياز، يقتضي أن يبنى على أسس من العدالة الاجتماعية والمشاركة الواسعة. فالتحول الحقيقي يتطلب ضمان الحماية القانونية للحقوق الرقمية، إشراك المجتمعات في صنع القرار، وبناء بنية تحتية شاملة تصل الجميع، لا أن تترك المهمشين فريسة للعزلة والبطالة التكنولوجية.
دون ذلك، فإن المستقبل الرقمي مهدد بأن يصبح مجرد إعادة إنتاج للظلم القديم، ولكن بلغة جديدة، وبأقنعة براقة. لن يكون سوى "نسخة محدثة" من الإقصاء، حيث يعاد تدوير علاقات القوة ذاتها، ولكن عبر خوارزميات ذكية وسحب رقمية. والمفارقة أن هذا المستقبل قد يبدو أكثر تقدما، لكنه في جوهره أكثر قسوة إذا لم توضع له ضوابط إنسانية ومجتمعية واضحة.
إن العدالة الرقمية ليست ترفا نظريا، بل ضرورة فلسفية وأخلاقية لضمان أن تبقى التكنولوجيا في خدمة الإنسان، لا أن يتحول الإنسان إلى تابع خاضع لها، أو إلى رقم في معادلة لا يرى فيها إلا الأرباح.