الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ذات خريف صيني

نشر بتاريخ: 25/09/2022 ( آخر تحديث: 25/09/2022 الساعة: 09:48 )

الكاتب: مصطفى بشارات

ما يعنيني هو تلك الرياح التي هبت قبيل هطول الأمطار، تحديدا لسعات البرد التي رافقتها، ذلك الوقت الذي يفصل بين هدوء الصيف، ظله الثقيل، وانحباس الأنفاس فيه، ودبق العرق، وبين نعومة الشتاء، هدوئه، بعض جنونه الذي يتخفى بهيئة عواصف، وكثير من زمهرير البرد الذي ينسرب في العظم كتيار قوي من الكهرباء.

في ذلك الوقت (الخنثى)، تلك الأثناء (الرمادية)، أغوص عميقا في منعرجات نفسي، أرحل بعيدا إلى تلك السهوب الشاسعة، إلى هاتيك الجبال الشاهقة، أفر كأسراب الطيور المهاجرة، أذهب إلى (فوجو)، بالضبط أذهب إلى (هاذيك) التلة الوديعة المشرفة على مركز المدينة، أذهب إلى ذلك المنتجع (الفخم)، كنت فيه محض فرد غريب بين جمهرة الغرباء - من منا الغريب! - مجرد (ذرة) صغيرة ضائعة ضمن فيالق من (النمل).

وجوه صفراء جنوب شرق آسيوية ابنة البلاد أنا بينها الوحيد، اليتيم والأجنبي، بسحنتي الخضراء الشرق أوسطية، أطل عليها من شرفة جناحي الفندقي، أطل بتوجس على الشارع القريب الساكن سكون المقابر، أطالع الأشجار التي يصارع الإعصار أغصانها فتتشبث بأعمدة الكهرباء المنغرسة على طول جادة الطريق لصق السور الحجري المزنر بأغصان شجرة المجنونة وأزهارها البهية (الفاقعة) والمبهجة.

هل يتشابه الخريف في كل البلاد، لماذا ألحت مضيفتي الصينية كي تعرف هل لا زلنا في بلادنا نستطيع التمييز بين الفصول، أن تعيش الخريف في بلد يشبه أم يختلف أن تعيشه في بلد آخر، بين الخريف الفصل والخريف العمر ما وجه التطابق وأين مكمن الاختلاف، هل يصلح أن أسمي غيابك خريف وحضورك ربيع، كيف تسيل الفصول على بعضها البعض، هل يندغم الفصل بالفصل، هل يسرق الواحد الآخر، هل تحزن أيام السنة التي كانت العام (الفائت) ضمن فصل الصيف و (تزحزحت) العام الحالي وأصبحت ضمن فصل الخريف، ثم متى ينتهي هذا الخريف العربي المقيم فوق رؤوسنا كأعواد المشانق؟؟!!

يحدث كل هذا، أتوجع على الأبرياء الذين يموتون وسط البحار دون أن يحفلوا ولو بقليل من ربيع يبدل رتابة أيامهم الخريفية، أفتقدك وأتوجع، وتتوجع معي الأشجار، تفرح، تحزن، تضحك، تبتسم.. تونع الأوراق، تصفر، تذبل، تسقط، وفي قارعة الطريق تنهرس تحت الاقدام العابرة، الأقدام ابنة البلد، والأقدام الغريبة، تحت قدمي، لكن تبقى منها رائحتها التي تشبه رائحة الخريف، تشبه رائحتك، رائحة الموسيقى والوشوشات الصينية.

كل شيء يسقط، يتبدل.. وحدك تبقين كرمح طويل يغوص عميقا في كل الفصول، يغوص عميقا في دمي..

أحب الخريف لأنه يشبه غيابك، وحين تتساقط أوراق الأشجار أتلمس فيها درب الوصول إليك؛ درب الوصول إلي؛ لذلك أحب الأوراق المتساقطة، وأحب الخريف.