السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الاسئلة الكبيرة في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي

نشر بتاريخ: 05/06/2023 ( آخر تحديث: 05/06/2023 الساعة: 11:07 )

الكاتب: عوني المشني



في احدى جلسات الحوار مع اسرائيليين حول الوضع السياسي سألني احد الاسرائيليين : لماذا انتم الفلسطينيون لا تتعاطوا مع الواقع ، انتم هزمتم في الصراع معنا ، لماذا لا تعترفوا بالهزيمة وتنهوا هذا الصراع ؟! الا يكفي ضحايا ؟
لم احتاج للكثير من النفكير حتى اجيب : لتسمعني جيدا نعم انتصرتم انتم ، ولكنه انتصار غير كافي لانهاء الصراع ، ، وكذلك هزيمتنا لم تمنعنا من النهوض من جديد ، والاهم وكما اكدت التجربة عبر مائة عام من الصراع ان امكانية تحقيقكم انتصار كامل شبه مستحيل بينما هناك فرصة ولو انها بعيدة لهزيمتكم هزيمة كاملة وبعدها لن يكون هناك فرصة اخرى وحتى ذلك الحين فان الصراع يصبح عبثنا بكل ما العبث من عدم مسئولية . هناك حدود لقدرة التفوق العسكري . لم يعد التفوق العسكري لديكم قادر على احداث تغييرات سياسية ، وصلتم الى النهاية في ذلك ، اليوم الفلسطينيين اقوى بحضورهم مما كان حتى قبل عام ١٩٤٨ ، دعنا نعترف معا : لا يمكن احداث اي هزيمة تلغي وجود الشعب الفلسطيني ، ولكن ليس مستحيلا احداث هزيمة تلغي الوجود السياسي اليهودي . افهمت لماذا لم ينتهي الصراع ؟!!! هناك فرصة بعد عام ، بعد عشرة ، بعد مائة ينتظرها الفلسطينيين لتحقيقي نصر واحد ، نصر واحد فقط سيكون كافيا لانهاء الصراع ، بينما لو انتصرتم عشرين او مئتين نصر فذلك لن ينهي الصراع . هذه هي النتيجة الوحيدة والغير قابلة للتغيير لحل الصراع عبر القوة .
لكن بعد هذا الحوار الموجز بدأت افكر جديا في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي خارج السياق التقليدي ، بدأت من حيث انتهيت في ذاك الحوار في طرح الاسئلة البديهية المحيطة بالصراع الفلسطيني وهي اكثر الاسئلة المغيبة لدى الجمهور والطبقة السياسية في كلا الجانبين ، وهي الاسئلة الاساسية والتي ستفشل كل محاولات حل الصراع طالما لم يواجهها بجرأة وصدق كل من الجانبين .
السؤال الاهم : ماذا يريد كل صرف؟؟ ويتفرع عن هذا السؤال اسئلة كثيرة … هل هناك امكانية لان يحقق كل طرف ما يرغب ؟؟؟ ما هي الوسيلة لتحقيق كل طرف ما يريد ؟ هل بالضرورة ان يكون نجاح اي طرف بتحقيق اهدافه على حساب الطرف الاخر ؟؟؟ هل التاريخ هو الذي سيحكم نتائج الصراع ام ان المستقبل هو ما يعيد ترتيب التاريخ ؟؟ الاجابة على تلك الاسئلة لا تفك شيفرة الصراع فحسب بل تسلط الاضواء على الجوانب المظلمة في هذا الصراع وتجعل كل جوانبه واضحة ومفهومة .
لنبدأ : الجواب البديهي يريد الفلسطينيين كل فلسطين من البحر الى النهار وبدون اي وجود يهودي سياسي باي شكل كان ، وبالمناسبة يريد الاسرائيليون نقيض هذا الشيئ تماما واكثر منه قليلا ، يريدون اسرائيل كاملة من البحر الى النهر يهودية بدون اي وجود فلسطيني سواء سياسي او حتى سكاني ، هكذا يبدوا المشهد ، تناقض الى حد التطهير العرقي ، ولكن لنلاحظ انه رغم هذا التناقض الحاد فان المشترك هو انه لا يريد اي طرف اقتسام الارض او تقسيمها وهذا هو المشترك . هذا لم يتحقق لكلا الشعبين عبر مائة عام من الصراع ، وعبر كل الحروب ، وعبر كل المراوغات ، الفلسطينيون متوزعون في هذه البلاد والاسرائيليون كذلك . لا احد يملك حلا سحريا يحقق فيه ما يريد .
وظف الاسرائيليين الاسطورة والغيبيات لتبرير رغباتهم بينما وظف الفلسطينيين الجغرافيا والحاضر الملموس ، استعان الاسرائليون بحق القوة بينما احتمى الفلسطينيين بقوة الحق ، في المحصلة النهائية وبعد كل اخفاق في حل هذا الصراع يعود الامر الى المربع الاول منه .
هذا من حيث الشعار السياسي .
لكن من حيث جوهر الاشياء فما يريدانه الطرفين شيئ له لغة مختلفة .
سواء " بتحرير فلسطين " او بدون ذلك ففي المحصلة النهائية يريد الفلسطينيون ما يريده اي شعب اخر ، لا اكثر ولا اقل . يريد الشعب الفلسطيني ان يعيش على تراب وطنه بحرية وسيادة وكرامة ومستوى حياة جيد . هذا ما يريده كل شعب ويجد صيغة ما تناسبه لتحقيقه . ورغم اختلاف اهداف كل تجمعات الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين او في الشتات الا ان هذا الهدف يجمعهم ويوحدهم . وفي التفاصيل هناك اشياء مختلفة تناسب كل تجمع . اليهود الاسرائيليون يريدون حياة امنة في وطنهم اولا ويريدون الاطمئنان على مستقبل وجودهم لان لا يتعرض لمخاطر المنافي والابادة كما عودهم التاريخ . وهذا يوحد كافة اطياف اليهود العلمانيين والمتدينين على حد سواء .
يبدو للوهلة الاولى اننا امام هدفين متناقضين تماما لا يتحقق اي منهما الا على حساب الاخر ، وهذه النظرة جعلت الصراع يتواصل لمئة عام واكثر ، وحاول كل طرف ان يحقق اهدافه بهزيمة الطرف الاخر لكن بحساب النتائج فان الانتصارات الاسرائيلية وفي جولات متعددة جعلت اسرائيل تنتصر في تحقيق وجود ليس امن وغير مضمون الاستمرارية بينما تشتت الفلسطينيون وخسروا وطنهم بالكامل دون ان يستسلموا للهزيمة وبقيت اهدافهم حاضرة في وعيهم الفردي والجمعي بل وتكرس وجودهم السياسي اكثر مما كان قبل . بمعنى ان الصراع العنيف لم يصل الى نتيجة بحسم اي طرف لاهدافه الحقيقية . ميزان القوى كان عاملا حاسما في ارساء وجود يهودي سياسي ولكن دون ان يحقق الامن او اليقين الوجودي ، من جهة اخرى كان كافيا لزعزعة الوجود الفلسطيني دون ان ينهي الهوية الفلسطينية بل ربما عززها . والاهم ان ميزان القوى وصل الى نهايته فيما يستطيع ان يحقق لكلا الطرفين ، لا يستطيع ميزان القوى ان يحقق امن او يقين وجودي وفي نفس الوقت لا يستطيع ان ينهي الوجد اليهودي - ستة ملايين يهودي ونيف على الارض - .
وصلت المعادلة التي حكمت الصراع طيلة الفترة الماضية الى نهايتها ، ما يحصل الان وغدا وبعد غد لا يمثل اكثر من استمرار الصراع دون تحقيق اختراق ذي مغزى في تحقيق الاهداف الاستراتيجية ، لا الشعب الفلسطيني قابل للفناء ولا الوجود اليهودي كذلك ايضا . معادلة الاستسلام لميزان القوى او الامر الواقع مفقودة لدى الطرفين . هذا يعني ان الصراع استنفذ ذاته واصبح عبثيا بالمعنى السياسي والاخلاقي .
ربما لم يصل الكثير من الفلسطينيين والاكثر من الاسرائليين لهذا الاستنتاج ، وقد لا يصلون اليه قريبا ، ولكن على الاقل بات السؤال الاهم : وماذا بعد ، ما المخرج ؟!! يؤرق الطرفين ، وحتى الذين يهربون من هذا السؤال يصطدمون به موضوعيا وعلى الارض كل يوم وكل ساعة .
في حديث صريح مع احد صناع السياسة الاسرائيليين سألته : لا تريدون حل الدولتين ، لا تريدوا دولة ديمقراطية واحدة ، والصراع لن ينهي الفلسطينيين ، ما الذي ستفعلونه مع ست ملايين فلسطيني يعيشون على هذه الارض وبينكم اذن ؟!! تنهد واخذ نفسا عميقا ثم قال " لا يوجد اسرائيلي واحد يعرف الاجابة على هذا السؤال " . بالمقابل يجيب الفلسطينيين على السؤال : حتى لو انتصرتم وطوقتم تل ابيب بجيوشكم المنتصرة هل تستطيعون ابادة ستة ملايين يهودي ؟!! بالنفي الاكيد . هذا تعبير واضح على ان استمرار الصراع لن يستطيع تغيير معطيات الواقع الاساسية بغض النظر عن سيرورة هذا الصراع ونتائجه العسكرية . وخير مثال على ذلك ست جولات من القتال حول قطاع غزة لم تسفر سوى عن مئات القتلى والبيوت المهدمة ولكن الوضع السياسي لغزة لم يتغير عليه شئ وبقي ازمة تتفاقم لدى طرفي الصراع .
وماذا بعد ؟!! السؤال المثير للارباك هو كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة المغلقة ؟!! ربما المشكلة الاكبر هي طريقة التفكير في ايجاد اجابة للسؤال ، وبدون طريقة تفكير مختلفة لا يمكن احداث اختراق لهذا الوضع ، طريقة التفكير الكلاسيكية والتي ساهمت في اطالة الصراع هي البحث عن اقتسام للاهداف ، كل الحلول السياسية التي طرحت اعتمدت مبدأ ايجاد صيغة تقاسم الاهداف ، الارض ، المكانة السياسية ….. الخ . هذا الطريقة تتأثر بعاملين : ميزان القوى ، والواقع الموضوعي على الارض . ادراك طرفي الصراع لذلك جعلهما يسعيان دوما وابدا الى السعي لجمع مقومات القوة لكل طرف واحداث متغيرات على الارض لصالح كل طرف بهدف استخدام ذلك في معادلة الاقتسام ، وبالتالي تحولت الحرب الى وسيلة ضرورية ومهمة تهيئة لمرحلة الاقتسام . واصبح السعي الى السلام عبر الحرب طريقا وحيدا لكلا الطرفين .
الطريقة المختلفة هي البحث عن المشترك وتعزيزه ، وتقاسم ما هو مختلف عليه ، بمعنى ان هناك ما هو مشترك ، ما هو هدف للطرفين بدون ان يكون تحقيقه لاي طرف على حساب الطرف الاخر ، هذا قاسم مشترك ، وامكانية الاتفاق حوله عالية بل تكاد تكون كاملة ، بعد ذلك نأتى لما هو مختلف عليه ونوظفه في سياق المشترك وهذا يحدث قفزة نوعية في النتائج . الشيئ الاهم والذي هو اساس لاي شيئ مشترك او مختلف اخر ان هناك شعبين مختلفين يعيشان على هذه الارض ، لكل شعب مشاعر حقيقية كونها مع نفسه اولا ومع هذه الارض ثانيا ، بغض النظر عن الرواية التاريخية وتداخلها مع الاسطورة وتوظيفها في سياقات سياسية ملتبسة فان هذه الحقيقة لن تختفي باستمرار الصراع او بتوقفه ، هذه الحقيقة تحمل المشترك والمختلف في ذات الوقت : المختلف ان شعبين لهما طابع ديني وثقافي وحضاري مختلف وخصوصية لكل شعب اما المشترك فانهما يعيشان على هذه الارض . انطلاقا من هذه المقولة وتجسيدا لها فان المطلوب في اي صيغة للتعاطي مع هذا الصراع ،ان تكرس حقيقة العيش المشترك بما فيه من امن وضمان استمرار هذا العيش وافق تطوره المستقبلي والسلم الاجتماعي والسياسي لهذا العيش هذا من ناحية اما ناحية الاختلاف فهذا يعني الحفاظ على خصوصية كل شعب وطابعه العام بما لا يتعارض مع الشعب الاخر . هذا الاساس النظري والفكري كفيل بايجاد سياقات لاي حل لهذا الصراع ، وبدون ذلك ستبقى كل محاولات صناعة سلام مجرد خداع سياسي لا اكثر .
وعندما نقول العيش المشترك كقاعدة فانه يستنبط منها المساواة بدون اي تفوق عرقي او اثني او اجتماعي ، وانهاء كل اشكال التمييز . وثانيا ان العيش المشترك يعني الحق في الاقامة والتنقل لكلا الشعبين في كافة نواحي البلاد وهذا ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين بصفتهم جزء من الشعب الفلسطيني ، وعندما نقول اللاجئين فاننا نعني ان اي حل يتجاهل مصالح نصف الشعب الفلسطيني لن يكون له صفة الاستدامة وسيبدو اقرب لهدنة بين حربين ، كما انه من غير المنطق رفض عودة من غادر وطنه قبل اقل من مئة عام بينما قبول عودة من غادر البلاد قبل الفي عام !!!!!! وهنا ننتقل الى المختلف فكون ان هناك شعبان بخصائص مختلفة فذلك يعكس حق الشعبين في دولتين كاملتا السيادة والاستقلال بدون وصاية من شعب على آخر ، شعبان يمارسان حقوقهما الديمقراطية كل شعب في دولته المستقلة بدون ان يكون لمكان الاقامة انعكاس ديمغرافي على طبيعة الحكم . ان صيغة تعزيز المشترك والمحافظة على الخصوصية ليست اختراعا وانما هي ترجمة للواقع الموجود على الارض ، وهي صيغة تجعل الشعبان ذات المصلحة في التطور والحياة وهذا يجعل لهما ذات المصلحة في الامن ومن هنا يصبح الامن للشعبين مصلحة مشتركة ، ان وضع الشعبان على ذات الخط من المصلحة يجعل لهما ذات المصلحة في الامن وهذا ما يزيل التخوفات الاسرائيلية .
صيغة " شعبين في بلاد واحدة " ليست اختراع بقدر ما هي ترجمة لواقع الحال والذي يحقق مصالح شعبين دون ان يكون مصلحة شعب على حساب الاخر ، فهي تحقق حرية الاقامة للشعبين في كامل البلاد مع ممارسة كل شعب حقوقه السياسية في دولته وبهذا يزيل التخوفات ، وان تكون القدس بشقيها وبدون تقسيم عاصمة مشتركة وبادارة فلسطينية اسرائيلية متساوية وبمستوى واحد من التطوير عاصمة موحدة لدولتين بدون تحديد جغرافي . وان يكون محكمة عليا مشتركة لحقوق الانسان والمساواة وازالة كل مظاهر التمييز الديمغرافية ويجعل الامن مصلحة مشتركة ويعطي اليقين باستمرار الوجود وينهي التهديدات الاقليمية للدولتين . اي صيغة ستكون مكتملة الجوانب اكثر من تلك ؟؟ اي صيغة تحول التهديدات الى فرص اكثر من تلك ؟
واقعية هذه الصيغة تنبع من قدرتها على تطويع الواقع بكل تعقيداته بدون احداث جراحة مؤلمة لطموحات الشعبين او احداث مفاجئات صادمة ، وهي تجيب على التساؤلات التاريخية امتدت طيلة فترة الصراع ، وتغير من طريقة التفكير في المآلات المستقبلية ، لا يوجد توقعات كبرى ولا اوهام ، كل ما الامر ايجاد صيغة خلاقة لحياة مشتركة
قد يكون الوضع الان على مفترق طريق مهم ، ما هو ممكن الان قد يصبح مستحيل غدا ، والفرصة الان قد تنعدم غدا او بعد غد ، الانتظار لا يخدم من يتسلح بالقوة لفرض السيطرة على شعب اخر ولكنه قد يخدم الشعب الفلسطيني للتخلص من السيطرة ، بالسلام او يغيره سيكون للفلسطينيين حرية ووطن .