الخميس: 03/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

احتجاز الجثامين جرح نازف لمشاعرنا وكرامتنا

نشر بتاريخ: 24/09/2023 ( آخر تحديث: 24/09/2023 الساعة: 08:37 )

الكاتب: نهاد أبو غوش

تمثل قضية احتجاز جثامين الشهداء جرحا نازفا للمشاعر وللكرامة الوطنية والإنسانية، وبخاصة لذوي الشهداء الذين لم يكفِهم فقدان أعز أحبائهم، ولكن تحولت حياتهم إلى ضرب من المعاناة المستمرة، والكابوس الطويل المليء بمشاعر القهر والألم ونيران الحسرة والقلق الذي لا يتوقف ليلا ولا نهارا، ولا صيفا ولا شتاء، طالما أن جثامين أعزائهم محتجزة في صقيع ثلاجات الاحتلال، وتحولت مادة للابتزاز والمساومة.

كل الشرائع السماوية والأرضية تقر بكرامة الإنسان، حيا كان أو ميتا، واللافت أن الشريعة اليهودية هي أكثر الشرائع اهتماما بالدفن اللائق للموتى، فترى الفرق المتخصصة، على شاكلة منظمة (زكا) وهي منظمة تطوعية مهمتها الكشف عن ضحايا الكوارث، وتقوم بعد كل حادث سير أو عملية بتجميع أشلاء الموتى وأجزاء أجسادهم في أكياس خاصة لدفنها بما يتناسب مع طقوس الدفن اليهودية. كما رأينا دولة الاحتلال الإسرائيلي تبذل جهودا استثنائية وتنفق عشرات ملايين الدولارات لاستعادة رفات الجاسوس ايلي كوهين، أو البحث عن قتلى عملية السلطان يعقوب، وأحيانا تدفع الملايين لإحضار رفات حاخام مات في اليمن أو المغرب قبل مئات السنين.

هذا الاهتمام بكرامة الموتى من قبل دولة إسرائيل يقتصر على الموتى اليهود، بينما تخضع جثامين الشهداء الفلسطينيين لكل صنوف الإخفاء القسري والدفن العشوائي في مقابر الأرقام. أحيانا يكون الدفن قرب مجاري السيول والأودية التي تجرف تلك المقابر بما فيها، فضلا عن الاحتجاز الطويل الأمد للجثامين في الثلاجات، وكل ذلك بهدف ابتزاز الفلسطينيينن سواء من خلال الإفراج عن الجثامين ضمن صفقات أمنية أو سياسية، أو لردع الجمهور الفلسطيني، وخلق قناعة مفادها أن من يفكر بالمقاومة أو ينفذ أي عملية سوف تتسبب بمعاناة دائمة لأهله، فالاحتلال لا يكتفي بالإعدام الميداني لمنفذي العمليات بل يعاقب الأهل فيهدم البيوت ويسحب التصاريح أو الهوية ويهدد بالإبعاد، ثم يلجأ إلى الإجراء الأكثر أذى نفسيا وهو احتجاز الجثامين.

ما يؤكد أهمية الموضوع أن الرئيس محمود عباس اشار له خلال كلمته التي ألقاها في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، متسائلا تساؤلا استنكاريا عن سبب وجدوى جثامين الشهداء . وقبل الخطاب بيومين استضاف مركز "مسارات" ندوة حوارية حول ورقة بحثية أعدها الباحثان الشابان غزل الناطور ومعتصم زيدان، وناقشاها بحضور ممثلي أهالي الشهداء ومركز القدس للمساعدة القانونية الذي بذل جهودا قانونية وسياسية وجماهيرية مميزة خلال السنوات الماضية للإفراج عن جثامين الشهداء المحتجزة وجثامين مقابر الأرقام، وقد نجحت جهود المركز في الإفراج عن بعض الجثامين بعد احتجازها لأكثر من 30عاما، وقوبلت جهوده بعقبات إسرائيلية فعلية ومصطنعة ومحاولات للتضليل والتنصل من المسؤولية عن حفظ جثامين الشهداء وبخاصة أولئك الذين مضى على احتجازهم عشرات السنوات. تتحدث الورقة البحثية المشار لها عن احتجاز جثامين أكثر من 140 شهيدا خلال السنوات السبع الماضية، إلى جانب الاحتفاظ بجثامين أكثر من 256 شهيدا في مقابر الأرقام. وهنا لا بد من التنويه إلى أن هذه الأعداد تتحرك بشكل يومي، وغالبا في اتجاه صاعد، مع مواصلة دولة الاحتلال سياسة القمع الوحشي والاغتيالات والاجتياحات ضمن السياسة المعروفة بمحاولات حسم الصراع بالقوة العسكرية.

من الأمور التي صدمت المشاركين في الندوة ما ذكرته السيدة أزهار والدة الشهيد عبد الحميد أبو سرور الذي استشهد عام 2016، وهي ابنة الشهيد عبد الحميد أبوسرور (ابو الغضب) الذي استشهد عام 1981، من أن سلطات الاحتلال عمدت إلى دفن ابنها في مقبرة أرقام تسمى (عميعاد) قرب صفد. الشهيد وأهله من سكان بيت لحم، واستشهد في القدس، فما الذي يدفع إلى دفنه في صفد سوى الرغبة في قهر الأهل وتعذيبهم مدى العمر، علما بأن هذه المعلومة لم تتوفر إلا بعد مراجعات قانونية مضنية وجهود حثيثة وتدخل مركز "عدالة" لحقوق الأقلية العربية الفلسطينية في الداخل من أجل معرفة مصير الشهيد.

تكشف الورقة مجموعة من الخلفيات السياسية والنفسية لسياسة احتجاز الجثامين أو "جمع الجثث" ومن ضمنها المساومة والابتزاز، وكونها أداة للضبط والسيطرة على جسد الفلسطيني ووعيه، ونوعا من العقوبات الجماعية، وإخفاء ملابسات إعدام الشهداء بعد أسرهم، والإهمال الطبي للأسرى، واحتمال استخدام جثامين الأسرى كحالات دراسية كما ورد في تصريح لرئيس الوزراء محمد اشتية. وذلك إلى جانب انتشار تقارير عن سرقة أعضاء شهداء فلسطينيين أو إجراء تجارب عليها كما ورد في شهادات الطبيبة الإسرائيلية مئيرا فايس، وفي تقرير لشبكة سي. إن. إن الأميركية.

لدى أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم في الثلاجات أو مقابر الأرقام عشرات القصص والحكايا المؤلمة والحزينة، كما أن لدى مؤسسات حقوق الإنسان المتخصصة الكثير مما تقوله في هذا الصدد، والمهم ألا يبقى الجهد الفلسطيني الرسمي والشعبي بشأن هذه القضية مبعثرا ومشتتا، وألا يقتصر العمل لتحرير الجثامين على ذويهم، فالقضية تخص كل فلسطيني وفلسطينية أينما كانوا، بل هي تخص كل فرد تنبض في عروقه الكرامة الإنسانية.

المطلوب تحويل هذه القضية إلى أولوية وطنية قصوى، وأن تحتل المكانة التي تليق بها في صدارة اهتمامات منظمة التحرير والسلطة وكل المؤسسات الأهلية والرسمية، وقضية رئيسية لدى كل القوى الفلسطينية، والهيئات الأهلية ولجان مناصرة فلسطين على امتداد العالم. وأن يجري العمل على بناء ائتلاف وطني عريض لمواصلة الضغط على حكومة الاحتلال وداعميها من أجل حل هذه القضية وعدم ربطها بأية شروط وتسويات سياسية. ويجدر تسليح جالياتنا بكل المعلومات والبيانات حول هذه القضية الحساسة التي يمكن من خلالها فضح جرائم إسرائيل واستقطاب الدعم والمناصرة لنضال شعبنا المشروع، وألا يظل الاهتمام بهذه القضية مقتصرا على الأهل والمؤسسات الحقوقية المتخصصة.