الأحد: 01/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

الهزيمة الاستراتيجية التي تحدث عنها اوستن

نشر بتاريخ: 07/12/2023 ( آخر تحديث: 07/12/2023 الساعة: 09:51 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

وقد ذكرها الرجل في معرض نصائحه لاسرائيل، و ليس في معرض الدفاع عنا او عن حقوقنا، بل هي عصارة التجارب الامريكية الاستعمارية، حيث ان الاضرار بالشعوب و التنكر لحقوقها و وجودها يقود الى تطرف يتوالد و يتعاظم جيلاً بعد جيل .

فاحتلال افغانستان و تقسيمها و اثارة النعرات الطائفية فيها ادى فيما ادى الى ظهور حركة طالبان بكل تجلياتها و تقلباتها وصولاً الى سيطرتها التامة على افغانستان في صورة نادرة من صور التاريخ العجيبة، كما ان الحربين الامريكيتين على العراق على مدى عشر سنوات تقريباً انتجتا ضمن امور اخرى القاعدة ثم داعش، و هما نسختان من قراءة للاسلام فيها و عليها جدل طويل و عميق، كما ان ميلاد الحركتين و تمويلهما و تحولاتهما تثير كثيراً من الاسئلة، و لكن الحركتين _و رغم كل ما قيل او يقال _ كانتا نتيجة تدمير المجتمع العراقي و تدمير مقدراته و تهجير نخبه و رؤوس امواله و تغيير ديموغرافيته و تفكيك نسيجه المؤتلف منذ مئات السنين، كما أن غزو لبنان في الثمانينات اخرج حزب الله تعبيراً عن رغبة الشعوب في التحرر و الرد على الاستلاب و التغريب و الاحتلال، و هو ما حصل عندنا ايضا، فظهور حركة حماس _بنسختها التي قادتها الى الاشتباك مع المحتل _ كان مرتبطاً بالاجراءات الاسرائيلية منذ الانتفاضة الاولى سنة 1987 و حتى يومنا هذا، و هذا كله يعيدنا الى ما قاله وزير الحرب الامريكي لويد اوستن ان الاضرار بالمدنيين قد يحقق نصراً تكتيكياً سريع المدى، و لكنه يحمل معه بذور هزيمة استراتيجية بعيدة المدى تماماً، فالقوة العسكرية الغاشمة قد تحقق نتائج سريعة، و قد ترضي نزعة انتقامية تعصف بالرأس و القلب، و قد تشبع جمهوراً متعطشاً للرد و التنكيل، و قد تساعد في انجاح هذا الحزب او ذاك او صعود هذا الزعيم او ذاك، و لكنها على المدى الطويل ستؤدي الى مزيد من الكراهية و الحقد و تأسيس اسباب جديدة لجولة اخرى من الاشتباك قد تكون اكثر حدة و شدة و فتكاً.

الهزيمة الاسترتيجية التي اشار اليها وزير الحرب الامريكي هي ان هذه الالوف من الضحايا الفلسطينية ستكون سبباً وجيهاً و مستمراً لعدم القدرة على التوصل الى تسوية، و قد تشكل هذه الضحايا سداً منيعاً امام اقامة علاقة طبيعية مع اسرائيل على مدى العقود القادمة، و ستكون صورة لا يمكن محوها او رفعها من ذاكرة شعوب المنطقة، خصوصاً انها ترافقت مع موجات عالية من العنصرية و الكراهية

الى درجة ان قائداً علمانياً أباً عن جد يتحول الى زعيم روحي يريد تطبيق ما ورد في سفر اشعيا عن التعامل مع ابناء العماليق، لم يجد هذا الزعيم سوى النبي اشيعا لاستعارته في هذه الحرب، و للمفارقة فان هناك من علماء الملسمين من رأى في سفر هذا النبي تمهيداً و وصفاً لسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و صحبه الغر الميامين، على كلً و بعيداً عن ذلك، فان استعارة النبي اشعيا و استخدامه من قبل زعيم يسلم رقبته و مستقبله و مستقبل كيانه لمتطرفين لا لشيء الا من اجل بقائه في منصبه، يعني اننا امام جيل جديد من قادة اسرائيل الضعفاء الذين لا تهمهم الهزيمة الاستراتيجية بقدر ما يأملون او يحلمون بتحقيقه من نجاح سريع لا يدوم.

برأيي ان ما قصده اوستن بالهزيمة الاستراتيجية، في معرض نصائحه لاسرائيل التي يقودها زعيم علماني يتلطى وراء نبوءة اشعيا من جهة و وراء الدفاع عن اللبرالية الغربية الكافرة من جهة اخرى، انما يقصد ضمن امور اخرى ان تدمير او تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة سيقود الى ميلاد حركات فلسطينية اخرى اكثر قوة و تجذراً و حنكة و مستعدة و مجهزة باساليب و مضامين اخرى، اذ لا يمكن لمجتمع بشري يقبل ان يشطب من سجل الاسرة الدولية و يحجب عن الوجود لمجرد ان مجموعة بشرية اخرى ارادت ذلك، لا يمكن لمجتمع له جذوره و تاريخه و سردياته و روحانياته و مشاركاته الحضارية و الانسانية ان يقبل ان يتم فصله عن شروط الحياة الكريمة بحدودها الدنيا، ولا يمكن لشعب يحترم دماء اجداده ان يقبل ان يعيش في ذل دائم و عبودية متواصلة.

الهزيمة الاستراتيجية هي ان يتم نسيان او تناسي هذه المبادىء الاساسية في التاريخ.

وزير الحرب لويد اوستن قدم لاسرائيل نصيحة ذهبية بالمجان، و من الواضح ان اسرائيل لم تستمع اليه على الاطلاق، و قد قيل ان النصيحة كانت قديماً تشترى بجمل، اما اليوم فهي لا تشترى بدجاجة على ما يبدو.