الخميس: 08/05/2025 بتوقيت القدس الشريف

ارتدادت العدوان على البنية الاجتماعية

نشر بتاريخ: 08/05/2025 ( آخر تحديث: 08/05/2025 الساعة: 15:13 )

الكاتب: رزق عطاونة

منذ اندلاع العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، يمر المجتمع الفلسطيني بمرحلة دقيقة، ليس فقط من حيث التحديات الأمنية والسياسية، وإنما أيضًا من حيث التماسك الاجتماعي الداخلي الذي بات مهددًا على نحو غير مسبوق، فقد فرض هذا العدوانعنف وتدمير ونزيف إنساني مستمر من خلال مجموعة من الارتدادات العميقة على البنية الاجتماعية، أدت إلى تصاعد في مظاهر الاستقطاب، إلى جانب عودة لافتة للهويات الضيقة والقبلية، التي بدأت تحل محل الهوية الوطنية الجامعة في بعض المناطق هذا التحول لا يمكن فهمه خارج سياق تراجع دور المؤسسات الرسمية، وتآكل الثقة بها، وغياب رؤية وطنية موحدة تجمع الفلسطينيين في وجه آلة العدوان والاحتلال.

لقد ساهم العدوان في اضعاف بنى السلطة الفلسطينية مما انعكست سلباً على منظومتها الإدارية والأمنية، خاصة في الضفة الغربية، التي باتت تعاني من حالة انفلات أمني تدريجي في بعض المدن والمخيمات ومع انشغال المؤسسات الرسمية بالتعامل مع الأزمات المتلاحقة وتراجع سيطرتها على بعض المناطق، بدأ المواطن الفلسطيني يبحث عن بدائل توفر له الحماية الاجتماعية والعدالة والتمثيل، وهو ما قاده، بشكل تلقائي، إلى الالتجاء للعائلة والعشيرة والحمولة، باعتبارها مكونات قادرة – من وجهة نظره – على سد الفراغ، هذا الارتداد نحو البنى التقليدية لا يمكن عزله عن السياق النفسي والسياسي العام، إذ يشعر الفرد الفلسطيني اليوم بالغربة داخل مؤسساته، وفقدان الأمل بالقيادات الرسمية التي لم تنجح في بناء مشروع وطني جامع، الأمر الذي جعله يتجه نحو روابطه الأولية بحثًا عن الانتماء والهوية والدعم.

في ظل هذه الظروف، يمكن ملاحظة تصاعد لافت لمظاهر الانقسام داخل المجتمع الفلسطيني، سواء على المستوى السياسي أو الجغرافي أو الثقافي فالخطاب العام اليوم مشبع بلغة التخوين والانقسام، والتباعد بين مكونات الشعب الفلسطيني وبات أكثر حدة.

ولم يقتصر هذا التباعد على الخطاب السياسي فحسب، بل انعكس على أنماط السلوك اليومية، وعلى آليات اتخاذ القرار داخل المجتمع المحلي. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أواخر عام 2023 أن نسبة كبيرة من المواطنين لم تعد تثق بقدرة القيادة الحالية على تمثيلهم أو الدفاع عن مصالحهم، وأن الولاء للهوية الوطنية بات يتراجع لصالح الولاءات المحلية والعائلية والفصائلية، وهي مؤشرات خطيرة تنذر بتفكك اجتماعي عميق.

هذا التراجع في الثقة لا يقتصر فقط على البعد السياسي، بل يشمل أيضًا المنظومة القضائية والأمنية، حيث باتت العديد من القضايا الاجتماعية تحلّ خارج إطار القانون، عبر الجاهات والصلحات العشائرية، وهو ما يعزز بدوره سلطة العائلة والقبيلة على حساب سلطة الدولة. ويشير تقرير صدر عن مركز مدى الكرمل في مطلع عام 2024 إلى أن تزايد الاحتكام إلى المرجعيات التقليدية في حل النزاعات المجتمعية يعكس تآكل ثقة المواطن بالقضاء الرسمي كما يعكس عودة تدريجية إلى أنماط ما قبل الدولة، وهو ما يهدد القيم الحديثة للدولة المدنية، ويقوّض إمكانيات بناء نظام قانوني عادل ومُستقر.

في هذا السياق، فإن تصاعد التوجهات القبلية لا يمكن فصله عن شعور الفلسطينيين بالخوف من المستقبل، والإحباط من الحاضر، والعجز عن التأثير في مجريات الأمور السياسية. فمع تزايد استهداف الاحتلالللمدنيين، وتدمير البنية التحتية في غزة، وغياب أي أفق سياسي حقيقي لحل عادل للقضية الفلسطينية، بات الأفراد أكثر ميلًا للانغلاق داخل هوياتهم الضيقة، واستعادة روابطهم التقليدية باعتبارها شبكات دعم وحماية نفسية واجتماعية، كما أن هذه الروابط تلعب دورًا وظيفيًا في ظل الانهيار الحاصل، إذ توفر فرص العمل، وتحل النزاعات، وتمنح الشعور بالانتماء، وهي أدوار كان من المفترض أن تلعبها الدولة أو المؤسسات الوطنية الجامعة.

المشكلة لا تكمن في وجود الهويات الفرعية بحد ذاتها، فكل مجتمع متعدد يحتفظ بتنوعه الثقافي والعائلي والمناطقي، ولكن الخطورة تنبع من صعود هذه الهويات كبدائل للهوية الوطنية، وكإطار مرجعي أول في تحديد الولاء والانتماء. فعندما يصبح الانتماء للقبيلة أو العائلة أقوى من الانتماء لفلسطين كقضية وشعب، فإننا نكون أمام تهديد مباشر لفكرة الوطن، ولبنية الدولة المستقبلية التي نسعى لبنائها.

وللخروج من هذا المشهد المعقّد، لا بد من العمل على إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته الرسمية، من خلال تبني سياسات شفافة وشاملة تعزز من حضور الدولة في حياة الناس، وتوفر لهم الأمن والعدالة والتمثيل الحقيقي، كما يجب إشراك البلديات والمجتمع المدني والشباب في جهود إعادة التماسك الاجتماعي، وتعزيز السلم الأهلي، والحد من مظاهر العنف والانقسام،والعمل على تفعيل دور الإعلام التوعوي في مواجهة الخطاب القبلي والفئوي، وتأكيد وحدة الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال.

في المحصلة، فإن العدوان على غزة لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل زلزال اجتماعي وأخلاقي ترك بصماته على بنية المجتمع الفلسطيني بأكمله. وإن لم يتم تدارك هذه الارتدادات ومعالجتها بسرعة، فقد نجد أنفسنا أمام واقع اجتماعي ممزق، يصعب ترميمه في المستقبل القريب.