الجمعة: 16/05/2025 بتوقيت القدس الشريف

أزمة المثقف العربي بين الماضي والحاضر

نشر بتاريخ: 16/05/2025 ( آخر تحديث: 16/05/2025 الساعة: 09:05 )

الكاتب:

الدكتور جهاد بن جميل حمد- أستاذ علم الاجتماع المشارك في جامعة السلطان قابوس، سلطنة عُمان

الملخص

يتناول المقال أزمة المثقف العربي في ظل التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية، مستندًا إلى المنهج السوسيولوجي لتحليل العوامل البنيوية المؤثرة في دوره. احاول هنا أن أُبرِز التناقض بين الدور التاريخي للمثقفين خلال عصر النهضة، الذين قادوا مشاريع الإصلاح والتحرر (مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وطه حسين)، وواقعهم الحالي المتمثل في التهميش والتبعية للسلطة أو العولمة.

والتي تشمل التحديات الرئيسية:

- السياسية: تقييد الحريات وملاحقة المثقفين في الأنظمة السلطوية.

- الاقتصادية: تراجع الدعم الرسمي للثقافة مقابل صعود النمط الاستهلاكي.

- التكنولوجية: تحول الفضاء العام إلى منصات رقمية تفتقر للعمق النقدي.

- الهوياتية: صعود الخطابات الأصولية وتفكك الوحدة الثقافية العربية.

وهنا احاول أن أقدم للقارئ حلولًا عملية، منها، إعادة تعريف دور "المثقف العضوي" (جرامشي)، وتعزيز التضامن الثقافي الإقليمي، وإصلاح التعليم عبر "البيداغوجيا النقدية" (Critical Pedagogy). كما أؤكد على أن الأزمة هي نتاج بنى قابلة للتغيير، وأتساءل عن إمكانية استعادة المثقف لدوره التغييري في مواجهة الاغتراب والهيمنة. (فريري، باولو. 1970).

المقدمة:

يشغل المثقف العربي موقعًا مركزيًّا في تشكيل الوعي الجمعي والخطاب الثقافي عبر التاريخ الحديث، لكنه اليوم يواجه أزمة وجودية تتنازعها ثنائيات الماضي والحاضر، التقليد والحداثة، والهوية والعولمة. حيث انه من المنظور السوسيولوجي، لا يمكن فصل هذه الأزمة عن التحولات البنيوية في المجتمعات العربية، بدءًا من الاستعمار ومرورًا بصعود الدولة القومية، ووصولًا إلى تعقيدات العصر الرقمي.

يرى أنطونيو جرامشي أن المثقفين هم "منظرو الهيمنة" الذين يشاركون في صياغة الوعي الاجتماعي (جرامشي، 1971)، لكن الواقع العربي اليوم يُظهر تناقضًا بين هذا الدور النظري وإمكانية التطبيق في ظل أنظمة سياسية وثقافية معقدة.

ومن هنا فتُعد أزمة المثقف العربي موضوعًا مركزيًا في النقاشات الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، خاصة في ظل التحديات السياسية والثقافية التي تواجه المجتمعات العربية. عليه، يُمكن فهم هذه الأزمة من خلال التركيز على التحليل السوسيولوجي لها، وهذا في إطار العلاقة بين المثقفين والسلطة.

اولا: ندرة المثقفين الحقيقيين وعلاقتهم بالسلطة:

من وجهة نظر سوسيولوجية، يُمكن اعتبار المثقفين فئة اجتماعية تنتج وتنشر الأفكار. ومع ذلك، في العالم العربي، غالبًا ما يكون المثقفون الذين يُطلق عليهم هذا اللقب مرتبطين بالسلطة السياسية أو الاقتصادية، مما يحد من قدرتهم على التفكير النقدي المستقل. يُفسر هذا الظاهر بمفهوم بيير بورديو "الرأسمال الثقافي"، حيث يكتسب المثقفون مكانة اجتماعية وموارد من خلال التعاون مع السلطات السائدة. كما يشير تقرير من مؤسسة راند (RAND) إلى أن الشباب من المثقفين العرب يمرون بأزمة تتسم بالعلمانية والنقد الذاتي الجذري، لكن هذا النقد غالبًا ما يبقى مجردًا دون تحول إلى حلول عملية.

وفي السياق التاريخي، فاننا نجد المثقف العربي في عصر النهضة ، منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،حيث مثّلت حركة النهضة العربية مرحلة ذهبية للمثقفين من امثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، الذين سعوا إلى إصلاح الفكر الديني وتحديث التعليم ومواجهة الاستعمار. وفقًا لألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في العصر الليبرالي" (1962)، كان هؤلاء المثقفون جسرًا بين التراث الإسلامي والحداثة الغربية، مساهمين في بناء هوية عربية متجددة. لعبوا دورًا محوريًا في تأسيس المدارس والصحف، مما وسّع دائرة الحوار العام وأسس لـ"الفضاء العمومي" الذي تحدث عنه يورغن هابرماس (1989).

ثانيا: المثقف العربي بين ماضٍ مجيد وحاضر مُعقَّد

1. دور الماضي: النخبوية والريادة

تمتع المثقف التقليدي بشرعية اجتماعية وسياسية، حيث كان جزءًا من النخبة المثقفة التي تقود مشاريع التحرر الوطني. على سبيل المثال، كان طه حسين ونجيب محفوظ رموزًا للتنوير، رغم انتقادهم لسلطات الاستبداد.

2. تحوُّلات الحاضر: التهميش والتشتت

اليوم، يواجه المثقف تحديات جذرية:

- السياسي: تقييد الحريات تحت حكومات سلطوية، كما يظهر في ملاحقة الكتاب في دول مثل مصر وسوريا (العلي، 2018).

- الاقتصادي: انخفاض الدعم الرسمي للثقافة، مقابل صعود ثقافة الاستهلاك التي تُهمّش الفكر النقدي.

- التكنولوجي: تحوّل "الفضاء العمومي" إلى منصات رقمية تفتقر لعمق الحوار، وفقًا لدراسة عبد الله الغذامي (2015).

- الهوياتي: صعود الخطابات الدينية المتطرفة والأصولية، التي تتصادم مع الخطاب التنويري للمثقفين العلمانيين.

ثالثا: التحديات السوسيولوجية: الهيمنة والاغتراب

1. العولمة والاستلاب الثقافي

أدت العولمة إلى تغلغل القيم الغربية عبر الآليات الرأسمالية، مما خلق أزمة هوية لدى المثقف العربي، الذي أصبح أمام خيارين: الاندماج في النسق العالمي أو التمسك بالخصوصية المحلية. إدوارد سعيد في "الاستشراق" (1978) يرى أن التبعية الثقافية تعيد إنتاج التبعية السياسية.

2. تفكُّك الوحدة الثقافية العربية

بعد فشل المشروع القومي، تشظّت الهوية العربية إلى هويات فرعية (طائفية، إثنية)، مما قلّل من تأثير المثقفين في بناء خطاب موحد. يشير عزمي بشارة (2017) إلى أن "الأمة العربية" ككيان ثقافي تواجه أزمة شرعية.

3. المثقف بين السلطة والمجتمع

في ظل الربيع العربي، برزت مفارقة: بينما قاد المثقفون الاحتجاجات، سرعان ما استُبعدوا لصالح حركات الإسلام السياسي أو القوى العسكرية، كما حدث في مصر (بايات، 2013).

رابعا: آفاق الحل: نحو تجديد الدور الاجتماعي

1. إعادة تعريف المثقف العضوي

بحسب غرامشي، المثقف العضوي هو من يرتبط بطبقات المجتمع المهمشة. هذا يتطلب انخراط المثقفين في قضايا العدالة الاجتماعية عبر منصات جديدة، كالتواصل الاجتماعي، لاستعادة دورهم كفاعلين تغييريين.

2. تعزيز التضامن الثقافي الإقليمي

إنشاء شبكات عابرة للحدود، كـ"منتدى المفكرين العرب"، لدعم الحوار بين المثقفين والمجتمعات، مستفيدين من دروس مشروع "الترجمة" في عصر النهضة.

3. التعليم كأداة للتغيير

تبنّي نموذج "البيداغوجيا النقدية" لباولو فريري (1970)، الذي يعيد ربط التعليم بالتحرر الاجتماعي، مما يعزز دور المثقف في تشكيل وعي الأجيال الجديدة.

خامسا: التحليل السوسيولوجي لازمة المقف العربي في والوعي والفكر والثقافة العربية:

نعم، يعيش المثقف العربي غربة ثلاثية الأبعاد: عن الشارع، وعن المؤسسة الثقافية، وعن ذاته. فبينما يتوق الشارع العربي إلى خطاب ثقافي تحرري، يجد المثقف نفسه مُقصىً بفعل آليات القمع التي تحد من حريته، كما يشير إدوارد سعيد (1994) في كتابه "صور المثقف"، حيث يؤكد أن المثقف الحقيقي مطالب بأن يكون "صوتًا للمحرومين". لكن الواقع العربي يفرض عليه الاختيار بين الصمت أو الاندماج في المؤسسة الرسمية، مما يكرس أزمة الثقة بينه وبين الجمهور.

فالمثقف المزيف هو من صناعة الأنظمة التي تروج لـ"مثقفين" يُعبّدون طريق الشرعية السياسية عبر خطاب مُسَيَّس. هؤلاء، وفق تحليل هشام شرابي (1988) في "البنية البطريركية"، هم نتاج بنية اجتماعية تقليدية تنتج نخبًا فكرية تابعة. فهم لا يمتلكون رؤية نقدية، بل يتبنون خطابًا تبريريًّا يُضفي شرعية على سياسات الاستبداد، مما يعمق الانفصال بين الثقافة والواقع.

العوامل السوسيولوجية للأزمة

يمكن تفكيك الأزمة إلى ثلاث مستويات: الفردي، والمؤسسي، والبنائي.

1. العوامل الفردية: الخوف والاغتراب

- عقدة الخوف: تُنتج التربية الأسرية العربية فردًا خاضعًا، يهاب السلطة ويبتعد عن التفكير النقدي، كما يوضح مصطفى حجازي (2001) في "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور".

- الاغتراب الثقافي: استلاب الهوية بفعل العولمة، حيث يصبح المواطن مستهلكًا لثقافة استهلاكية تُفصله عن تراثه، وفق تحليل زيجمونت باومان (2000) في "الحداثة السائلة".

2. العوامل المؤسسية: التعليم والإعلام

- مناهج التعليم: تُكرس المناهج العربية ثقافة التلقين بدلًا من النقد، مما يُنتج أجيالًا لا تمتلك أدوات التفكير العلمي، كما تُظهر تقارير **اليونسكو** (2015) حول جودة التعليم في العالم العربي.

- الإعلام الاستهلاكي: تحول الإعلام العربي إلى أداة لتغريب الوعي، حيث تُهيمن البرامج الترفيهية على 80% من المحتوى، وفقًا لتقرير اتحاد الإذاعات العربية (2020)، مما يُضعف الحضور الثقافي الجاد.

3. العوامل البنائية: الأنظمة السياسية

تعمل الأنظمة العربية على إخضاع المثقف عبر آليات متعددة:

- القمع المباشر: وفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية (2022)، تحتل الدول العربية مراكز متقدمة في قمع حرية التعبير.

- استبدال النخب: دعم مثقفين موالين يروجون لخطاب السلطة، كما يوثق عزمي بشارة (2004) في "المجتمع المدني: دراسة نقدية".

نحو حلول سوسيولوجية.. إعادة تعريف الدور

1. المثقف والشارع: جسر الثقة المكسور

لا بد من إعادة بناء التحالف بين المثقف والجمهور عبر:

- تبسيط الخطاب: تقديم الأفكار بلغة قريبة من هموم الناس، كما فعل مالك بن نبي (1954) في "شروط النهضة".

- الانخراط في القضايا اليومية: كقضايا الفقر والبطالة، التي تشغل 60% من الشباب العربي، وفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2021).

2. إصلاح المؤسسات: التعليم والإعلام

- تعليم نقدي: تبني مناهج تعزز التفكير النقدي، كما تطبقها جامعة القاهرة في بعض برامجها التجريبية.

- إعلام ثقافي مستقل: دعم منصات إعلامية مستقلة، كتجربة "مدى مصر" أو "حبر" في الأردن.

3. الدور الدولي: مواجهة العولمة الثقافية

- تعزيز الثقافة المحلية: عبر دعم الإنتاج الأدبي والفني الذي يعكس الهوية العربية، كما تفعل مؤسسة عبد الحميد شومان في الأردن.

- التعاون الإقليمي: إنشاء شبكات مثقفين عرب مستقلين، على غرار "اتحاد الكتاب العرب"، لكن بعيدًا عن الهيمنة الرسمية.

الخاتمة: بين تراث الماضي وتحديات المستقبل

أزمة المثقف العربي ليست انفصالًا عن التاريخ، بل نتاج تفاعل معقد بين تراكمات الماضي وضغوط الحاضر. إن تجاوز هذه الأزمة يتطلب جرأة في نقد الذات، وإعادة بناء التحالفات مع المجتمع، واستعادة الثقة بدور الفكر كقوة تغييرية. كما كتب أدونيس: "الثورة لا تكتمل إلا بثورة في الوعي".

الأزمة ليست قدرًا محتومًا، بل نتاج بنى اجتماعية وسياسية قابلة للتغيير. على المثقف العربي أن يتبنى استراتيجيات مرنة تعيد توطينه في الفضاء العام، مع الاستفادة من منصات التواصل الاجتماعي كأداة للتحرر من هيمنة الإعلام الرسمي. كما أن تطوير البحث العلمي الجاد، الذي يشير إليه تقرير التنمية البشرية العربية (2016)، قد يكون مدخلًا لإنتاج مثقفين قادرين على قيادة التغيير. السؤال المركزي يبقى: هل يستطيع المثقف العربي تجاوز اغترابه ليصبح فاعلًا في صناعة التاريخ، أم سيستمر أسيرًا لأزمته؟

المراجع

- العلي، زينب. (2018). المثقفون العرب والسلطة: صراع الهوية.

- باولو فريري. (1970). بيداغوجيا المقهورين.

- بشارة، عزمي. (2017). في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي.

- بن نبي، مالك. (1954). شروط النهضة. الجزائر: دار الفكر.

- تقرير اليونسكو. (2015). جودة التعليم في العالم العربي. باريس: منظمة اليونسكو.

- تقرير اتحاد الإذاعات العربية. (2020). واقع الإعلام العربي. القاهرة: الاتحاد.

- جرامشي، أنطونيو. (1971). دفاتر السجن. ترجمة: عادل غنيم. القاهرة: دار التنوير.

- حجازي، مصطفى. (2001). التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. بيروت: معهد الإنماء العربي.

- حوراني، ألبرت. (1962). الفكر العربي في العصر الليبرالي.

- سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق.

- سعيد، إدوارد. (1994). صور المثقف. ترجمة: غسان غصن. بيروت: دار النهار.

- شرابي، هشام. (1988). البنية البطريركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر. بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية.

- هابرماس، يورغن. (1989). الفضاء العمومي.

- Bayat, Asef. (2013). Post-Islamism: The Changing Faces of Political Islam.

- Freire, P. (1970). Pedagogy of the Oppressed. Continuum