الكاتب: ثروت زيد الكيلاني
في قلب كل مشروع تعليمي حقيقي، يقبع سؤال المعنى: ماذا يعني أن نتعلّم؟ هل يقتصر التعليم على نقل المعارف وتكرارها، أم أنه فعل وجودي يرتبط بإدراك الذات، وتحقيق الحرية، والمساهمة في إعادة تشكيل الواقع؟ في ظل نظم تعليمية سادت فيها المقاربات الخطية المغلقة، يتعين علينا إعادة مساءلة فلسفتنا التربوية، والانطلاق نحو نماذج أكثر حيوية، تقوم على الانفتاح والتفاعل والتعدد والتأمل، وصولاً إلى تحقيق الغاية الأسمى: متعلمٌ خلاق، ناقد، مدرك لذاته، ومؤثر في مجتمعه.
ثنائية المتعلم الفاعل والمتعلم السلبي
بين إشكالية النمط ومأزق المنظومة في رحاب المشهد التربوي المعاصر، تتجلى أمامنا ثنائية تربوية حادة، تمثل طرفي نقيض في طرائق تلقّي المعرفة وآليات التفاعل معها. لكنها، في جوهرها، ليست إلا صورة مبسطة لطيف أوسع من أنماط المتعلمين، تتداخل فيه الخبرات، وتتنوع فيه الحوافز، وتتباين فيه القدرات والاتجاهات. ومع ذلك، فإن منظومة التعليم السائدة – بما تحمله من رؤى اختزالية، وأنماط استقبال سلبي، وتكرار آلي – تسهم بوعي أو دون وعي، في إعادة إنتاج هذه الثنائية، وترسيخها في الوجدان التربوي العام.
المتعلم الفاعل الناقد هو من لا يرضى أن يكون مجرد وعاء تُفرغ فيه المعلومات، بل يشكل المعرفة كما يُشكّل النحات مادته، يزنها بميزان الوعي، ويفحصها بعين العقل، ثم يعيد تشكيلها بما يتوافق مع تجربته الذاتية ومع سياقه الإنساني. هو المتعلم الذي يرى في كل فكرة بداية للسؤال، وفي كل معلومة حافزاً للبحث، لا نهاية للفهم. عندما تُعرض عليه مضامين معرفية، لا يكتفي بتلقّيها، بل ينفذ إلى عمقها، يتأمل سياقاتها، ويقارنها بخبرته الذاتية، ثم يعيد صياغتها بما يتناسب مع واقعه الإنساني. إنه لا يقف عند حدود الفهم الصامت، بل يشارك في كتابة المعنى من جديد، متحرراً من دور القارئ الخامل إلى دور الشريك المفكّر.
أما المتعلم السلبي المكرر فهو ذلك المتعلم الذي تُروضه المنظومة على الطاعة الصامتة، والامتثال لأجوبة معلبة، لا مكان فيها للسؤال، ولا متّسع للدهشة، يستقبل المعرفة كما تُعطى، ويكررها كما لُقِّن، يخزنها دون تمحيص، ثم يسترجعها في الامتحان كما يبثّ المذياع صوتاً لا يفقهه. فإذا سُئل عن مفهوم أو تعريف، سارع إلى استدعائه من الذاكرة كما حُفظ، من غير أن يتأمل معناه، أو يربطه بسياق، أو يستشعر أثره في واقعه. وهكذا يغدو العلم في ذهنه طقوساً متكررة لا روح فيها، لا تجربة نابضة بالحياة، بل نسخة جامدة من معرفة فقدت تفاعلها.
المنظومة التعليمية ومسؤولية التشكل النمطي
حين تميل المنظومة التعليمية إلى اختزال العملية التعلمية في نقل المحتوى واستظهاره، وتتجاهل دور التفكير كجوهر للفهم، وتمنح الأفضلية للإجابات الجاهزة على حساب الأسئلة المحفّزة، فإنها بذلك تُسهم في تكوين متعلم مُنقاد، غائب الدور، محدود التفاعل. إن المناهج المغلقة، والاختبارات النمطية، والإدارة الصفية التي تقوم على الضبط لا الحوار، تُنتج فضاءً تربوياً يُنمّي الانصياع لا المبادرة، ويُغذّي التَّلَقِّي الخاملُ بدلَ المشاركةِ الواعيةِ
في المقابل، لا يُولد المتعلم الفاعل من فراغ، ولا يُنسب حضوره إلى موهبة فردية صرفه، بل هو ثمرة بيئة تعليمية تتنفس الحوار، وتمنح للخطأ دوراً في صناعة الفهم، وتُقدّر الاختلاف بوصفه مساراً للتكامل لا ذريعة للإقصاء (Mezirow, 1991)، في مثل هذه البيئات، يُعاد تعريف النجاح لا بوصفه نتيجةً عددية، بل بوصفه نماءً في الوعي وتحوّلاً في الإدراك.
لكن الأخطر من كل ذلك، أن الاستجابات الصفية التي تصدر عن المتعلمين ليست بالضرورة انعكاساً لما يسعى المعلم إلى تحقيقه، بل غالباً ما تعكس ما ترسّخ في أذهانهم من عادات تكرارية اعتادت اجترار المعرفة دون تمثلها، وتلقّي المعلومة دون مساءلتها. فكم من معلم يسعى إلى إثارة التفكير وتحريك السكون، لكنه يجد نفسه أمام أنماط استجابة آلية، تكرّر ما أُلقي إليها دون وعي بماهيته أو سياقه، في مواجهة صامتة مع ما كان يأمل أن يكون حواراً حيّاً. وهنا تبرز المفارقة المؤلمة: أن المنظومة، حين تُنمط المتعلم على الخضوع، تُحبط حتى المحاولات الصادقة للمعلم الناقد في استنهاض العقل وإيقاظ المعنى.
المنظومة التربوية: من التقنية إلى الكينونة
إن مغادرة النمط الإملائي لا تُنجزها رتوشٌ شكلية على طرائق التدريس، ولا تُحقّقها إصلاحات تقنية فوق سطح المنظومة، بل تقتضي انقلاباً معرفيّاً يمسّ جذور الفلسفة التربوية ذاتها. فالنظام الخطي المغلق ليس مجرّد ترتيب إداري، بل رؤية للعالم: يخطّ مساراً أحاديّاً مسبقاً، يفصل المعرفة عن نبض الحياة، ويصوغ المعلم بوصفه ناقلاً، والمتعلم بوصفه مستودعاً، والامتحان بوصفه نهاية لا بداية.
أما النسق العملياتي المتواتر الحيوي، فهو إعادة تشييد للوعي التعليمي، لا إعادة ترتيبٍ للمحتوى. بنية مفتوحة تتنفس، تسمح بالرجوع المتكرر إلى الفكرة لا اجتيازها، وتوسّع المعنى لا تستهلكه، وتُعمّق الفهم بدلاً من تكديسه. في هذا النسق، يصبح المتعلم فاعلاً لا تابعاً، شريكاً لا مستقبلاً، ويغدو التعلم رحلة تأمل وتحوّل، لا عبوراً ميكانيكياً على مفاصل المقرر. إنّه نسق ينظر إلى التعليم بوصفه كينونة نامية، لا خريطة جامدة، وإلى العقل بوصفه كائناً حيّاً يتغذى من الحوار، لا آلة تحفظ خطوط الإنتاج المعرفي.
يستند هذا التحول إلى رؤية التعلم بوصفه بناءً للمعنى لا مجرد استظهار للحقائق، وإلى المنهج كفضاء حي للاكتشاف لا كخطة جامدة تُرسم للإجابات. كما يُنظر إلى المعلم كمرشد وميسر، لا مجرد ناقل ومقيِّم، فيما يُعطى المتعلم دور الذات الفاعلة التي تسهم في إنتاج المعرفة، لا كمستهلِك سلبي لها.
في هذا السياق، يبرز نموذج ويليام دول لبناء المنهج ما بعد الحداثي، الذي يشكل تجسيداً لهذا التحول في فلسفة التعليم. فقد اقترح دول (Doll,2016) أربعة معايير أساسية، تعرف بـ 4R، التي تمثل رؤية فلسفية للمنهج. أولها الغنى (Richness)، الذي يتيح تعدد القراءات والتعمق في المحتوى، بعيداً عن المعلومات السطحية. ثم التواتر (Recursion)، الذي يعزز تراكم الفهم من خلال العودة المستمرة للأفكار. والعلاقات (Relation)، التي تدعو لربط المعرفة بالسياقات الثقافية والاجتماعية. وأخيراً، الصرامة (Rigor)، التي تعني الانخراط في التحليل والتفكير العميق. كما أضاف معياراً خامساً هو الإيقاع (Rhythm)، الذي يعكس التنوع الحيوي في التعلم ويجنب الرتابة. هذه المعايير لا تمثل مجرد إجراءات تقنية، بل رؤية فلسفية تمنح المنهج حياة يتفاعل فيها العقل والروح.
التعلم بوصفه وعياً بالذات وسعياً للمعنى
التعليم ليس مجرد اكتساب للمهارات، بل هو في جوهره سؤال وجودي يتصل بإدراك الإنسان لذاته، وإعادة تشكيل علاقته بالعالم. فالمتعلم الخلاق هو من يرى في كل تجربة تعلمية فرصة لاكتشاف معنى للعيش، وتحقيق صورة أرقى للذات، والمساهمة في بناء واقع أكثر عدلاً ومعقولية. التحليق في فضاءات الوعي، على حد تعبير بعض منظّري التربية التأملية، لا يتحقق إلا حين يتحرر المتعلم من ثقل الاستظهار والتكرار، وينخرط في عمليات نقد الذات، وإعادة تشكيل المعرفة، وفهم الواقع عبر أدوات جديدة. إنه انتقال من استهلاك المعرفة إلى إنتاجها، ومن الفهم الخاضع إلى الفهم المؤسس.
ختاماً، إن الغاية من التعليم لا تقف عند حدود النجاح الأكاديمي، بل تتجاوزها إلى تشكيل الشخصية الإنسانية القادرة على التفكير الحر، والانخراط الفاعل، والمساهمة في إعادة بناء الواقع. ومن هنا، فإن التحول من النظام الخطي المغلق إلى النظام المفتوح المتواتر العملياتي لا يُعد خياراً تربوياً فحسب، بل هو ضرورة وجودية في زمن يعج بالتغيرات والتعقيدات.