الكاتب: رامي مهداوي
في الخامس والعشرين من أيار 2025، فقدت فلسطين أحد أبرز رموزها في النضال الشعبي والميداني ضد الاحتلال والاستيطان. رحل المهندس وليد محمود محمد عسّاف، المعروف بـ"أبو علاء"، بصمت في صباحٍ مشبع بالحزن، لكن إرثه بقي يملأ المكان: من قرى غرب رام الله إلى سهول الأغوار، ومن جدار الفصل العنصري إلى بيوت الخان الأحمر، حيث وقف شامخًا ذات يوم في وجه الجرافات.
ولد وليد عساف في 17 كانون الأول 1960 في قرية كفر لاقف شرق قلقيلية، في قلب الريف الفلسطيني الذي سيشكّل لاحقًا جوهر قضيته. بعد حصوله على درجة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة لاهور في باكستان عام 1986، عاد ليبدأ مسيرته المهنية في وكالة الأونروا، ثم مديرًا للرقابة الفنية والترددات في وزارة المواصلات. لكن العمل الحكومي لم يكن سقف طموحه، بل كان بوابة لخدمة قضيته الأكبر: الأرض.
انتُخب في عام 2006 عضوًا في المجلس التشريعي الفلسطيني عن حركة "فتح" ممثلًا لمحافظة قلقيلية، حيث برز صوته في قضايا الزراعة والأرض، وكان عضوًا فاعلًا في اللجان الاقتصادية والزراعية، وترأس لجنة مواجهة الاستيطان. وفي 16 أيار 2012، عُيّن وزيرًا للزراعة في حكومة الدكتور سلام فياض.
لكن المرحلة الأهم في حياته بدأت حين كُلّف في آذار 2015 برئاسة "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان"، خلفًا للشهيد زياد أبو عين. هناك، أظهر أبو علاء جوهر شخصيته: لا بيروقراطي خلف مكتب، بل مناضل في الميدان. رأيته مرة عن قرب، خلال فعالية تضامنية في منطقة النبي صموئيل شمال غرب القدس، كان يقف تحت شمس الظهيرة يشرح للصحفيين والمواطنين تفاصيل مخطط استيطاني جديد، يحمل بيده خرائط ويمسك بالأخرى زجاجة ماء. كان يتحدث بثقة وإصرار، ويقول: "مشروعنا الوطني يبدأ من هنا، من حماية الأرض دون شروط."
أبو علاء لم يكن فقط مسؤولًا رسميًا، بل كان عنوانًا لصمود الناس البسطاء. وقف إلى جانبهم في خيام الاعتصام، مشى في مسيراتهم، وتلقى الضربات ذاتها التي تلقوها، سواء في بؤر المواجهة في بيتا، أو عند بوابة الجدار في بلعين. حمل في ذاكرته أسماء القرى، ومواقع العائلات التي تواجه خطر التهجير، وكان يردّد دومًا: "كل دونم يُنتزع من المستوطن هو انتصار."
عاد لمواصلة عمله حتى مغادرته الهيئة. وعلى الرغم من خروجه من المنصب، ظل حضوره قويًا، يُستشار في كل ملف يتعلق بالأرض والاستيطان، ويُطلب رأيه في كل أزمة تخص جدار الفصل أو سياسة الهدم والمصادرة.
كان وليد عسّاف "فتحاويًا" حتى النخاع، لا بالموقع فقط، بل بالنهج والانتماء والقناعة. حمل فكر "فتح" كحركة تحرر وطني لا كإطار تنظيمي فحسب، مؤمنًا بمبادئها الأولى: أن البندقية والسياسة وجهان لمعركة الحرية. لم يتزحزح عن خطها الوطني رغم التحولات، وبقي وفيًا لنهجها الوحدوي، مدافعًا عنها داخل المؤسسات وخارجها، صلبًا في الميدان، صادقًا في القرار، لا يبحث عن مكاسب شخصية، بل عن حضور وطني يعبر عن أوسع طيف من أبناء شعبه. كان من أولئك الذين يرون في "فتح" مسؤولية تاريخية لا امتيازًا، وموقع نضال لا سلطة، ولهذا ظل حتى رحيله وجهًا فتحاويًا مشرفًا، نقيًّا في خطابه، ومخلصًا في انتمائه.
وعلى مدار أربعة عقود، حافظ على خيط نادر بين المهنية السياسية والالتزام الوطني الميداني. يجمع بين الدقة الهندسية في إدارة الملفات، والدفء الإنساني في حضوره الشعبي. وكان صوته حاضرًا دومًا في اللقاءات الوطنية، مدافعًا عن حقوق أصحاب الأرض، وعن الحق الفلسطيني في الوجود والبقاء.
برحيله، تفقد فلسطين واحدًا من جنودها المخلصين، رجلًا لم ينكفئ في وجه الضغط، ولم يتردد في قول الحقيقة. أما كفر لاقف، بلدته الوديعة، فقد ودعته بجنازة تليق بتاريخه، وسط دموع الأهل ورفاق الدرب، وعبق الزعتر الذي أحبه.
وداعًا أبا علاء... كنت وفيًا للأرض حتى الرمق الأخير، وها أنت تعود إليها الآن، محمولًا على أكتاف من أحببتهم وأحبوا صدقك.
نم قرير العين، ففلسطين التي أفنيت عمرك من أجلها لن تنسى أبناءها الأوفياء.