الكاتب:
اسماعيل جمعه الريماوي
منذ السابع من أكتوبر 2023، والعالم لا ينام على صوت القنابل التي تمزق غزة، ولا يصحو إلا على صور الجثث تحت الأنقاض، والمآذن التي صمتت بعدما صارت رماداً، والمستشفيات التي لم تعد تستقبل سوى الموتى لأن الحياة طُردت منها ، في هذه الرقعة الصغيرة المحاصرة من كل الجهات، تسيل الدماء فيها وتُغتال الأحلام، لكنّ الأهم أن ما يجري هناك لا يبقى هناك ، فغزة لم تعد مجرد عنوان لحصار أو مقاومة، بل تحوّلت إلى نقطة اشتعال أعادت تشكيل الضمير العالمي، وأعادت طرح الأسئلة الكبرى حول العدالة والحرية والقيم .
غزة، المدينة التي قاومت الجوع والموت والحصار لأكثر من 17 عاماً، وجدت نفسها أمام حرب لا تُشبه سابقاتها ، حرب قررت فيها إسرائيل أن تذهب حتى النهاية، لا في قتل المقاومين فحسب، بل في كسر إرادة الناس ومسح الجغرافيا والذاكرة معاً ، أكثر من 53 ألف شهيد، ومعظم القطاع قد دمر، ومليونَي إنسان يُدفعون نحو التهجير القسري، وكأن التاريخ يكرر نكبته، لكن بوقاحة عالمية هذه المرة، بلا أوراق توت، وبلا خجل .
وحدها الشعوب فهمت مبكراً ما يجري ، خرجت الملايين في لندن وواشنطن وباريس وجوهانسبرغ وغيرها لتصرخ: "غزة ليست وحدها"، خرج الطلاب في الجامعات الكبرى يعتصمون وينامون في البرد ويُضربون عن الطعام، لأن العدالة لا تحتاج جواز سفر، لأن الظلم عندما يُبَثّ على الهواء مباشرة لا يمكن حجبه بخطابات ديبلوماسية ولا بمنشورات صمّاء على وسائل التواصل ، لقد تحرك الضمير الإنساني على عكس الموقف الرسمي لغالبية الحكومات الغربية التي آثرت الصمت أو الاصطفاف خلف آلة القتل، بحجة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، حتى ولو كان الدفاع يعني سحق أطفال نائمين في حضن أمهاتهم .
لكن تداعيات الحرب لم تقتصر على المشهد الأخلاقي، بل تمددت إلى بنية العالم السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة، انهارت رهانات التطبيع أو على الأقل جُمّدت قسراً، فالموجة العاطفية التي اجتاحت الشعوب لم تترك مجالاً للتزييف، وسقطت أقنعة كثيرة كانت تُراهن على استبدال فلسطين بأسواق واستثمارات، وعادت المقاومة لتصوغ من جديد معادلات الردع، ليس فقط في غزة بل على حدود لبنان وسوريا وحتى في أعماق البحر الأحمر، حيث قررت صنعاء أن تُعلن رفضها للاحتلال بطريقتها الخاصة، ضاربة عمق الاقتصاد العالمي في أحد أهم الممرات الملاحية .
دولياً، انكشفت هشاشة النظام العالمي الذي تدّعيه الأمم المتحدة، فعندما سقطت عشرات قرارات مجلس الأمن في الفيتو الأمريكي، وعندما بدت المحاكم الدولية عاجزة عن تنفيذ أبسط مسارات العدالة، بات واضحاً أن القانون لا يحكم هذا العالم بل القوة، وأن إسرائيل ليست فقط كياناً فوق القانون، بل تمثل جوهر الانحياز الغربي المتوارث منذ قرون، والذي لا يزال يرى الإنسان غير الغربي كائناً يمكن التضحية به في سبيل المصالح .
في المقابل، برزت غزة كقضية تستنهض الجنوب العالمي، من جنوب أفريقيا التي رفعت راية المقاضاة أمام محكمة العدل الدولية، إلى أمريكا اللاتينية التي قطعت علاقاتها مع دولة الاحتلال، إلى أصوات ترتفع من أعماق آسيا وأفريقيا، تُطالب بنظام عالمي جديد يُنهي زمن التفوّق الاستعماري المغلف بالشرعية الدولية .
اقتصادياً، بدأت تبعات الحرب تتجلى في أسعار النفط والشحن والمواد الغذائية، في تصاعد قلق الأسواق وتزايد تحذيرات المؤسسات المالية من دخول العالم مرحلة اضطراب طويلة، لأن غزة لم تعد "بعيدة" كما كان يُروَّج، بل صارت داخل كل بيت، في فواتير الكهرباء، في أسعار الوقود، في عناوين الأخبار، في مشاعر الخوف من حرب شاملة أو تصعيد لا يمكن السيطرة عليه .
لكن أكثر ما فعلته غزة في هذا العالم هو أنها أعادت تعريف النبالة والإنسانية، أظهرت أن طفلاً يحمل حجراً يمكن أن يُربك أكبر جيوش الأرض، وأن أمّاً تودّع أبناءها الشهداء بالزغاريد قد تكون أعظم من كل قادة العالم، وأن الدم حين يُسال من أجل الحرية يوقظ أمماً نائمة، وضمائر مشوشة، ويعيد رسم خريطة الكرامة من جديد .
قد يبدو العالم الآن كمن قرر أن يشيح بوجهه عن غزة، لكن من يعرف هذه الأرض يدرك أنها لا تحتاج من العالم سوى أن يرى الحقيقة ، فغزة لا تموت حين يُهدم بيت أو يُغتال طفل، بل حين نصمت، حين نتعوّد على المشهد، حين يتحوّل الألم إلى خبر عابر في نشرات المساء ، ومع ذلك، فإن في كل قطرة دم تُراق هناك، تنبت صرخة في مكانٍ ما من هذا الكوكب ، في كل جنازة هناك من يوقن أن العدالة لا تزال تنبض، حتى لو خذلتها محاكم الأرض.
غزة ليست وحدها لأن كل حرّ في هذا العالم بات يرى نفسه فيها، في وجوه أطفالها، في دمع أمهاتها، في صمود رجالها، في صوت الأذان المقطوع وسط الدمار، في مدرسة تحولت إلى مقبرة جماعية، وفي امرأة تمسك ببطاقة تموين وتحاول بها إنقاذ عائلتها من الجوع ، غزة ليست رقعة جغرافية، بل مقياس للإنسانية، معيار نقيس به من تبقّى منا إنساناً، ومن باع ضميره على طاولة السياسة .
ربما لا تملك غزة أن تنتصر بالسلاح، وربما يُراد لها أن تُمحى من الخريطة، لكن المؤكد أنها انتصرت على الصمت، على الخوف، على نسيان العالم ، فحتى لو سقطت الجدران، فإن الرواية ستبقى، والشهادة ستبقى، والمقاومة ستبقى، لأن غزة باختصار، هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن يُهزم: فالكرامة حين تُحاصر، وتبقى واقفة غزة والعالم: كيف تحولت رقعة محاصَرة إلى مرآة تُعري البشرية؟
منذ السابع من أكتوبر 2023، والعالم لا ينام على صوت القنابل التي تمزق غزة، ولا يصحو إلا على صور الجثث تحت الأنقاض، والمآذن التي صمتت بعدما صارت رماداً، والمستشفيات التي لم تعد تستقبل سوى الموتى لأن الحياة طُردت منها. في هذه الرقعة الصغيرة المحاصرة من كل الجهات، تسيل الدماء وتُغتال الأحلام، لكنّ الأهم أن ما يجري هناك لا يبقى هناك. فغزة لم تعد مجرد عنوان لحصار أو مقاومة، بل تحوّلت إلى نقطة اشتعال أعادت تشكيل الضمير العالمي، وأعادت طرح الأسئلة الكبرى عن العدالة والحرية والقيم .
غزة، المدينة التي قاومت الجوع والموت والحصار لأكثر من 17 عاماً، وجدت نفسها أمام حرب لا تُشبه سابقاتها. حرب قررت فيها إسرائيل أن تذهب حتى النهاية، لا في قتل المقاومين فحسب، بل في كسر إرادة الناس ومسح الجغرافيا والذاكرة معاً. أكثر من 36 ألف شهيد، وثلثا القطاع مدمّر، ومليونَي إنسان يُدفعون نحو التهجير القسري، وكأن التاريخ يكرر نكبته، لكن بوقاحة عالمية هذه المرة، بلا أوراق توت، وبلا خجل .
وحدها الشعوب فهمت مبكراً ما يجري. خرجت الملايين في لندن وواشنطن وباريس وجوهانسبرغ وساو باولو لتصرخ: "غزة ليست وحدها"، خرج الطلاب في الجامعات الكبرى يعتصمون وينامون في البرد ويُضربون عن الطعام، لأن العدالة لا تحتاج جواز سفر، لأن الظلم عندما يُبَثّ على الهواء مباشرة لا يمكن حجبه بخطابات ديبلوماسية ولا بمنشورات صمّاء على وسائل التواصل. لقد تحرك الضمير الإنساني على عكس الموقف الرسمي لغالبية الحكومات الغربية التي آثرت الصمت أو الاصطفاف خلف آلة القتل، بحجة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، حتى ولو كان الدفاع يعني سحق أطفال نائمين في حضن أمهاتهم .
لكن تداعيات الحرب لم تقتصر على المشهد الأخلاقي، بل تمددت إلى بنية العالم السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. في المنطقة، انهارت رهانات التطبيع أو على الأقل جُمّدت قسراً، فالموجة العاطفية التي اجتاحت الشعوب لم تترك مجالاً للتزييف، وسقطت أقنعة كثيرة كانت تُراهن على استبدال فلسطين بأسواق واستثمارات، وعادت المقاومة لتصوغ من جديد معادلات الردع، ليس فقط في غزة بل على حدود لبنان وسوريا وحتى في أعماق البحر الأحمر، حيث قررت صنعاء أن تُعلن رفضها للاحتلال بطريقتها الخاصة، ضاربة عمق الاقتصاد العالمي في أحد أهم الممرات الملاحية .
دولياً، انكشفت هشاشة النظام العالمي الذي تدّعيه الأمم المتحدة، فعندما سقطت عشرات قرارات مجلس الأمن في الفيتو الأمريكي، وعندما بدت المحاكم الدولية عاجزة عن تنفيذ أبسط مسارات العدالة، بات واضحاً أن القانون لا يحكم هذا العالم، بل القوة، وأن إسرائيل ليست فقط كياناً فوق القانون، بل تمثل جوهر الانحياز الغربي المتوارث منذ قرون، والذي لا يزال يرى الإنسان غير الغربي كائناً يمكن التضحية به في سبيل المصالح.
في المقابل، برزت غزة كقضية تستنهض الجنوب العالمي، من جنوب أفريقيا التي رفعت راية المقاضاة أمام محكمة العدل الدولية، إلى أمريكا اللاتينية التي قطعت علاقاتها مع دولة الاحتلال، إلى أصوات ترتفع من أعماق آسيا وأفريقيا، تُطالب بنظام عالمي جديد يُنهي زمن التفوّق الاستعماري المغلف بالشرعية الدولية.
اقتصادياً، بدأت تبعات الحرب تتجلى في أسعار النفط والشحن والمواد الغذائية، في تصاعد قلق الأسواق وتزايد تحذيرات المؤسسات المالية من دخول العالم مرحلة اضطراب طويلة، لأن غزة لم تعد "بعيدة" كما كان يُروَّج، بل صارت داخل كل بيت، في فواتير الكهرباء، في أسعار الوقود، في عناوين الأخبار، في مشاعر الخوف من حرب شاملة أو تصعيد لا يمكن السيطرة عليه.
لكن أكثر ما فعلته غزة في هذا العالم هو أنها أعادت تعريف النبالة والإنسانية، أظهرت أن طفلاً يحمل حجراً يمكن أن يُربك أكبر جيوش الأرض، وأن أمّاً تودّع أبناءها الشهداء بالزغاريد قد تكون أعظم من كل قادة العالم، وأن الدم حين يُسال من أجل الحرية يوقظ أمماً نائمة، وضمائر مشوشة، ويعيد رسم خريطة الكرامة من جديد.
قد يبدو العالم الآن كمن قرر أن يشيح بوجهه عن غزة، لكن من يعرف هذه الأرض يدرك أنها لا تحتاج من العالم سوى أن يرى الحقيقة. فغزة لا تموت حين يُهدم بيت أو يُغتال طفل، بل حين نصمت، حين نتعوّد على المشهد، حين يتحوّل الألم إلى خبر عابر في نشرات المساء. ومع ذلك، فإن في كل قطرة دم تُراق هناك، تنبت صرخة في مكانٍ ما من هذا الكوكب. في كل جنازة هناك من يوقن أن العدالة لا تزال تنبض، حتى لو خذلتها محاكم الأرض .
غزة ليست وحدها لأن كل حرّ في هذا العالم بات يرى نفسه فيها، في وجوه أطفالها، في دمع أمهاتها، في صمود رجالها، في صوت الأذان المقطوع وسط الدمار، في مدرسة تحولت إلى مقبرة جماعية، وفي امرأة تمسك ببطاقة تموين وتحاول بها إنقاذ عائلتها من الجوع. غزة ليست رقعة جغرافية، بل مقياس للإنسانية، معيار نقيس به من تبقّى منا إنساناً، ومن باع ضميره على طاولة السياسة .
ربما لا تملك غزة أن تنتصر بالسلاح، وربما يُراد لها أن تُمحى من الخريطة، لكن المؤكد أنها انتصرت على الصمت، على الخوف، على نسيان العالم. فحتى لو سقطت الجدران، فإن الرواية ستبقى، والشهادة ستبقى، والمقاومة ستبقى، لأن غزة باختصار، هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يُهزم: فالكرامة حين تُحاصر، لكن تبقى واقفة.