الخميس: 10/07/2025 بتوقيت القدس الشريف

المخيمات الفلسطينية : رمزية القضية وقلعة العودة تحت نيران التصفية والتهميش

نشر بتاريخ: 10/07/2025 ( آخر تحديث: 10/07/2025 الساعة: 09:50 )

الكاتب:

اسماعيل جمعه الريماوي

منذ أن ارتُكبت جريمة النكبة عام 1948، لم يكن "المخيم" الفلسطيني مجرّد حلّ مؤقت لإيواء اللاجئين، بل تحوّل بسرعة إلى معلم بارز في الجغرافيا السياسية للنكبة، وموقع رمزي كثيف الدلالة في ذاكرة الفلسطينيين الجمعية ، فقد صار المخيم المكان الذي حمل كل شيء: الوجع، والحنين، والثورة، والأمل ، وما إن تقرأ كلمة "مخيم" حتى تقفز أمامك صور الأزقة الضيقة، والأسقف المتآكلة من الصفيح، والحجارة المتشابهة التي حفظت ما لم تحفظه خرائط الأمم المتحدة: معنى أن تكون فلسطينيًا لاجئًا لم ينسَ، ولا يقبل النسيان.

مهما اختلفت الأسماء والأماكن – من مخيمات الأردن ، إلى مخيمات لبنان ، إلى مخيمات سوريا، إلى مخيمات غزة والضفة التي قاومت الاحتلال بالحجر والنار – يبقى الجوهر واحدًا: شعب طُرد من أرضه قسرًا لكنه لم يغادرها وجدانيًا، وصار المخيم هوية نضالية وصوتًا سياسيًا لا يُسكَت.

لقد شكّلت المخيمات الفلسطينية عبر العقود عصبًا حيويًا لحركات المقاومة، وخزّانًا بشريًا للثورة، ومكانًا حافظ على النقاء الأول لفكرة العودة، ولذلك لم يكن غريبًا أن تصبح هدفًا مركزيًا لمشاريع التصفية، سواء من قِبل إسرائيل أو من حلفائها في الإقليم والعالم ، المخيم ببساطة، يشكّل خطرًا وجوديًا على الرواية الصهيونية التي تريد أن تقنع العالم أن اللاجئ الفلسطيني ذاب، وأن القضية انتهت.

ولهذا، لم تهدأ محاولات تقويض وجود المخيم، بدءًا من خطط شطب وكالة الأونروا وتجفيف مواردها، وصولًا إلى تدمير المخيمات ماديًا، كما حدث في مخيمات لبنان وسوريا، وما يحدث اليوم في غزة تحت غطاء الحرب والتجويع والترحيل، حيث تسعى إسرائيل إلى إفراغ القطاع من سكانه ومن بُنيته الاجتماعية عبر مشروع تهجير قسري متواصل لا يرى في المخيمات إلا "تهديدًا ديموغرافيًا" يجب محوه.

لكن إسرائيل لم تكن وحدها في هذا المسار فبعض الأنظمة الاقليمة رأت في المخيم عبئًا سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا، وسعت إلى تقليص حضوره، بل وقمعت ساكنيه عندما رفعوا صوتهم بالعودة أو بالرفض، بل وصل الأمر في بعض المراحل إلى حد ارتكاب المجازر داخل المخيمات .

أما السلطة الفلسطينية، فقد تعاملت مع المخيمات باعتبارها إشكالًا أمنيًا أكثر من كونها ركيزة وطنية ، فتُركت هذه المخيمات لعقود دون اهتمام جدي، وعُوملت بعين الريبة حين استمرت بتوليد المقاومين ، ولأنها بقيت خارج منظومة "التنسيق الأمني"، كان جزاؤها التهميش أو الحصار، أو في أفضل الأحوال الوعود الفارغة.

ووسط هذا الإهمال والتآمر، لم تستسلم المخيمات، بل بقيت على عهدها، تنجب من بين ركامها قادة ومناضلين، وتُعيد إنتاج الوعي بالعودة جيلاً بعد جيل. ظنّ البعض أن الذاكرة انتهت ، فإذا بها تتجدّد في أطفال المخيمات الذين يعرفون قراهم الأصلية كما يعرفون أسماء أزقة المخيم ، راهنوا على النسيان، فإذا بالمخيمات تُذكّر العالم كل يوم أن هناك جريمة لم تُحاسب، وحقًّا لم يُسترد.

المخيمات اليوم تُحاصر في كل مكان. تُهدم في غزة، وتُحارب في الضفة، وتُهمَّش في الشتات ، وتُشيطن في الإعلام، وتُحوّل إلى كتل بشرية مسحوقة بلا خدمات. لكن ما لا تدركه القوى التي تتآمرعلى المخيم هو أن بقاء المخيم الفلسطيني، بكل تفاصيله، هو بقاء لفكرة العودة ذاتها، وهو التحدي الأكبر في وجه مشاريع الشطب و التصفية ، سواء جاءت بصيغة "صفقة القرن" أو تحت راية "التطبيع" أو عباءة "التوطين".

في المخيم، يعيش الفلسطيني كأنه على تخوم قريته الأصلية ، في المخيم، لا يذوب بل يُقاوم ، في المخيم تختبئ الذاكرة، ويشتعل الوعي، وتُربّى الأجيال على أن الخيمة ليست وطنًا، بل بوابة نحو الوطن الحقيقي.

وما دامت المخيمات صامدة، فإن النكبة لم تنجح، والنكسة لم تكتمل، وصفقات البيع لم تُنهِ القضية ، وما دام طفل المخيم يعرف قريته ويهتف للعودة، فإن الرواية لم تُهزم، وإن النضال لم ينتهِ، وإن فلسطين لم تُمحَ من الخريطة.