السبت: 02/08/2025 بتوقيت القدس الشريف

إسبانيا: نموذج أوروبي متقدم في مواجهة جرائم الاحتلال الإسرائيلي

نشر بتاريخ: 01/08/2025 ( آخر تحديث: 01/08/2025 الساعة: 10:44 )

الكاتب:

د. راسم بشارات

في ظل تصاعد جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية، برزت إسبانيا بوصفها واحدة من الدول القليلة في أوروبا التي اتخذت موقفًا أخلاقيًا وقانونيًا واضحًا، يجمع بين الإدانة السياسية والخطوات العملية في سبيل محاسبة إسرائيل، وتقديم الدعم الفعلي للشعب الفلسطيني، وذلك من خلال مواقف جريئة تتجاوز الخطاب الدبلوماسي التقليدي إلى سياسات عملية ملموسة. ففي الوقت الذي تواجه غزة فيه عدوانًا غير مسبوق تقوده إسرائيل، وسط صمت دولي وتواطؤ سياسي في بعض الأحيان، تتحرك اسبانيا لإعادة تعريف الموقف الأوروبي، من خلال دعم الفلسطينيين في وجه سياسة الإبادة، والتوسع الاستيطاني، وتجاهل إسرائيل المتكرر للقانون الدولي.

موقف الحكومة: الانتقال إلى الأفعال

اتسمت مواقف الحكومة الإسبانية بقيادة بيدرو سانشيز بجرأة غير معهودة في الأوساط الأوروبية، حيث وصف رئيس الوزراء ما يجري في غزة بأنه “إبادة جماعية”، منتقدًا الصمت الدولي تجاه المجازر. ولم يتوقف الموقف الإسباني عند التصريحات، بل أعلنت الحكومة عن سلسلة من الخطوات العملية، أبرزها:

اعتراف رسمي بدولة فلسطين كجزء من تحرك أوروبي ثلاثي إلى جانب أيرلندا والنرويج.

دعم المساءلة الدولية، من خلال التصويت لصالح قرارات مجلس حقوق الإنسان، ومساندة الجهود القضائية الجارية في محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.

تنفيذ عمليات إنزال جوي للمساعدات الغذائية فوق قطاع غزة، وهو ما تم الإعلان عنه رسميًا ليبدأ يوم الجمعة 2 أغسطس 2025.

وقد عبر وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل الباريس عن سياسة حكومته الخارجية تجاه القضية الفلسطينية، صباح الاثنين ٢٠٢٥/٧/٢٨، في مقالة افتتاحية في صحيفة ال باييس بعنوان “Cerrar la herida de Palestina”، دعا فيها إلى الاعتراف بدولة فلسطين، إيقاف صادرات السلاح إلى إسرائيل، واتخاذ إجراءات ضد المستوطنين، ووقف الاتفاقيات مع إسرائيل، مؤكدًا دعم الحكومة الإسبانية لحل الدولتين.

مواقف الأحزاب الإسبانية: اليسار يقود الدعم، واليمين في حرج

حزب العمال الاشتراكي (PSOE) بقيادة رئيس الوزراء سانشيز هو الدعامة الأساسية للموقف المتضامن مع الفلسطينيين، مدعوما من كتل مثل Sumar التي تضم Izquierda Unida وPodemos وأحزاب إقليمية تقدمية، في مقدمتها اليسار الكتالوني.

أظهرت أحزاب اليسار الإسباني، وعلى رأسها حزب بوديموس (Podemos) وكتلة اليسار الجمهوري، مواقف ثابتة وداعمة للفلسطينيين، داعية إلى تعليق كافة أشكال التعاون مع إسرائيل، بما في ذلك الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية. في المقابل، ابدى اليمين الإسباني حذرا كبيرا أو حتى متواطئا بالصمت، خصوصًا مع تأكيد حزب الشعب على “ضرورة التوازن” دون إدانة واضحة للاحتلال.

هذا الانقسام الحزبي يعكس صراعًا سياسيًا داخليًا حول مكانة إسبانيا الأخلاقية في السياسة الخارجية، بين من يصر على الموقف الإنساني والقانوني، ومن يخضع لحسابات السياسة الأوروبية والضغط الأمريكي.

المجتمع المدني وحركات التضامن: فلسطين حاضرة في الشارع الإسباني

منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، شهدت المدن الإسبانية الكبرى مظاهرات حاشدة تنديدًا بالإبادة الجماعية، ورفضًا لتواطؤ بعض الدول الغربية. وبرز دور المنظمات الحقوقية، والنقابات، والحركات الطلابية في تعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية، وتنظيم الحملات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والدعوة لإيقاف تصدير السلاح.

تحت مظلة (منصة التضامن مع فلسطين)، تحركت مئات الجمعيات المحلية في مدريد، برشلونة، إشبيلية، وبلباو ومدن اخرى، لتكثيف الضغط الشعبي على الحكومة والبرلمان الأوروبي. كما شهدت الجامعات الإسبانية حراكات غير مسبوقة، دعمتها اتحادات طلابية يسارية وأكاديمية، تطالب بتجميد أي علاقة مع المؤسسات الإسرائيلية المتورطة في جرائم الحرب.

ونظم الاتحاد العمالي CGT مع المنظمات الطلابية والحقوقية إضرابا عاما وطنيا في 27 سبتمبر 2024 احتجاجًا على الإبادة في فلسطين، ودعوة الحكومة لقطع العلاقات العسكرية والتجارية مع إسرائيل.

كما نشطت لجنة منظمات المجتمع المدني الإسباني لدعم القضية الفلسطينية (Comité de ONG sobre la Cuestión Palestina) التي تأسست عام ١٩٩١، وشاركت في برامج تبادلية وأبحاث ميدانية لتوعية الرأي العام وتوثيق التجاوزات الاسرائيلية.

إسبانيا في طليعة الموقف الأخلاقي الأوروبي

لقد سبقت إسبانيا العديد من الدول الغربية في تبني مواقف متقدمة تجاه الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، حيث انتقلت من مجرد التصريحات الدبلوماسية إلى خطوات عملية ملموسة.

لم تكتف الحكومة الإسبانية بالإدانة الخطابية، بل تبنت خطابا واضحا يصف ما يجري في قطاع غزة بأنه “إبادة جماعية”، في وقت تتردد فيه عواصم أوروبية كبرى في تسمية الأمور بمسمياتها.

وجاءت هذه المواقف على خلفية استمرار إسرائيل في خرق القانون الدولي الإنساني، وضربها عرض الحائط بالشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، من خلال الحرب الشاملة على غزة وسياسة التجويع بمنع دخول مواد الاغاثة، والاستيطان المتغوّل في الضفة الغربية، وسياسات العقاب الجماعي.

وقد عبرت الحكومة الإسبانية عن تحول نوعي في فهم دور أوروبا الأخلاقي تجاه الشعوب المضطهدة، رافضة ازدواجية المعايير. هذا التحول السياسي يُقرأ أيضا في ضوء تنامي التأثير الشعبي والضغط الحقوقي من داخل الشارع الإسباني، مما جعل صانع القرار أكثر جرأة في تبني إجراءات عملية ضد الاحتلال، دون انتظار ضوء أخضر من الاتحاد الأوروبي أو واشنطن.

خطوات الحكومة الإسبانية العملية، من إدانة الممارسات الاسرائيلية إلى الاعتراف، إلى فرض العقوبات، إلى إنزال المساعدات فعليا، تؤكد التزاما متوازيا يخطو باتجاه تمكين الدولة الفلسطينية على حدود 1967 كحد أدنى شرعي، وفرض مساءلة دولية على انتهاكات الاحتلال، والعمل على الضغط على إسرائيل والدول الداعمة لها لتبني قرارات الأمم المتحدة وتطبيق الفصل السابع كآلية لإرغام إسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة وبناء السلام العادل.

الخلاصة

في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات الناجين من المجازر، وتتعاظم مشاهد الدمار في غزة، أثبتت إسبانيا أن الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان ليس مجرد شعار، بل سياسة دولة.

هذه المواقف قد تفتح الباب أمام تحول أوروبي أوسع، خاصة مع تزايد الضغط الشعبي على الحكومات الأوروبية المترددة، ونية فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل.

إن انخراط إسبانيا بهذا الشكل في دعم حقوق الفلسطينيين، قد يعزز من زخم الجهود الدولية لإيقاف الإبادة، ومحاسبة إسرائيل، وإعادة طرح حل الدولتين بجدية، على قاعدة إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

وفي مواجهة صمت رسمي دولي مخزٍ، تبقى إسبانيا – حتى إشعار آخر – ضميرًا أوروبيًا حيًا لا يزال يدافع عن العدالة، وعن فلسطين بدفاعها عن حقوق الإنسان وقانون العدالة الدولية، ودفاعها عن حل الدولتين كأساس للسلام الشامل في منطقة الشرق الأوسط.