السبت: 02/08/2025 بتوقيت القدس الشريف

غزّة: “عصابات المجاعة” أول فصول الكارثة

نشر بتاريخ: 01/08/2025 ( آخر تحديث: 01/08/2025 الساعة: 20:31 )

الكاتب: مصطفى إبراهيم

للمجاعة التي نعيشها في غزّة وجه آخر غير الجوع، فعندما تفترس الفوضى وجوه الجوعى، وتتجلّى الوحشية الإسرائيلية في تفتيت ما تبقّى من الروح الجماعية، يبدو وكأن الشر كلّه قد اجتمع في لحظة واحدة، كامناً في داخلنا، يتربّص بلحظات الضعف.
عايشنا سابقاً فترات قاسية في تاريخنا، لكن ما يحدث اليوم، في قلب حرب الإبادة، لا يشبه شيئاً عرفناه من قبل: قسوة بلا حدود، وانحدار غير مسبوق في العلاقات الاجتماعية.

يقول كثيرون إن ما يحدث طبيعي، وإن الإنسان في صراع البقاء ينزع غريزياً إلى الدفاع عن النفس، لكن حتى لو تفكّكت قيم التضامن، وظهرت مجموعات لصوصية تستغلّ الفوضى التي غذّتها إسرائيل عمداً، فنحن لم نعد أمام حالات فردية من البؤس، بل نشهد تحوّل جماعات إلى عصابات تُسيطر على الأسواق، وتفتك بما تبقّى من أخلاق إنسانية.

غزّة لم تشهد أيّاماً أشدّ قسوة من التي تعيشها اليوم تحت نير الحرب والمجاعة. لكنّ الجوع وحده لا يقتل. الأخطر أن تفقد الجماعة ملامحها وأصولها، أن يتآكل التضامن، ويصبح الضعف العامّ غابة لا صوت فيها إلا لمن يسرق، وينهب، ويتحكّم برقاب الناس.

مرّ الفلسطينيون بتجارب موجعة من قبل، لكنّ ما نشهده اليوم ليس مجرّد كارثة إنسانية، بل تفكّك اجتماعي حادّ، وانزلاق نحو فوضى مدروسة تُغذّيها وتُديرها يد الاحتلال.
إسرائيل، في حربها الطويلة، لا تكتفي بالقصف والتجويع، بل تدفع الأمور إلى حافّة الانهيار الداخلي. إنها تريد غزّة بلا بنية، بلا مجتمع، وبلا روابط، فوسط المجاعة وهمجية الاحتلال وعنفه في تفكيك المجتمع، تَشكّلت مجموعات لصوصية مستفيدة من هذا التفكّك، ومع الوقت، اكتسبت هذه المجموعات شكلاً من أشكال التنظيم: يسرقون الشاحنات، ينهبون المساعدات، ويعيثون فساداً في ما تبقّى من مناعة اجتماعية.

الذين يمارسون هذه الأفعال ليسوا هواة؛ لقد راكموا “خبرات” من عصابات سابقة، وأصبحوا أكثر تنظيماً، يفرضون الأسعار، ويمنعون حتى مجرّد النقاش حول تخفيضها. يبيعون حليب الأطفال، ويتحكّمون بالسوق، تماماً كما تتحكّم إسرائيل بحياتنا وموتنا. سلطة بديلة في زمن الفوضى. قال لي أحدهم بلا خجل: “قبل الهدنة لازم نرفع الأسعار، الهدنة بترجع الأمور لطبيعتها”.

لكن أي طبيعة هذه؟ لقد أصبح “الطبيعي” هو استغلال الضعفاء، نهب الفقراء، وفرض القسوة كلغة يومية. شبان كانوا يؤمّنون المساعدات قُصفوا، تُركوا ينزفون، وسُرقت الشاحنات أمام أعين الناس. لم يَعُد هناك ما يردع: لا ضمير، لا سلطة، ولا مجتمع، والأخطر أن هذه الظواهر لا تحدث بمعزل عن السياق السياسي.

إسرائيل تراكِم هذا الانهيار، تراهن عليه، وتنتظره، فهي تدرك أن سلاح الفوضى لا يقلّ فتكاً عن القصف. كلّ تأخير في إدخال المساعدات، كلّ انسحاب مقصود، كلّ فراغ في السلطة، يصبّ في مشروع واحد: تفكيك غزّة من الداخل. نحن لا نعيش فقط مجاعة، بل استراتيجية إبادة مجتمعية.

الجريمة لم تعد في استهداف الإنسان فقط، بل في تفتيت روحه، في تحويله إلى كائن مفترس مضطرّ للانقضاض كي يبقى حيّاً. إسرائيل لا تقتلنا فقط، بل تدفعنا لنأكل بعضنا بعضاً، وتراقب المشهد بصمت بارد. وحدها الهدنة، مهما طالت، قادرة على إيقاف النزيف مؤقّتاً، لكنّها لا تعالج الجرح، بل فقط تمنع موته المؤقّت.

الأخطر من ذلك هو التهافت على الطرق الخطيرة خلف الشاحنات بذريعة الجوع، من أجل كيس طحين، ومع الوقت، يتغلّب الناس على خوفهم، ويتحوّلون إلى وحوش بشرية، تُطارد كيس طحين، أو صندوق مساعدات، ومن حالة الوداعة، ننتقل إلى اللامبالاة، ثم إلى السرقة بحكم العادة.

فئات عمرية واجتماعية مختلفة، تذهب إلى الموت طوعاً من أجل طحين قد لا تحصل عليه في النهاية، والمشهد يتكرّر مع من يغامرون بالذهاب إلى مناطق خطرة يسيطر عليها جيش الاحتلال للاطمئنان على منازلهم، كثيرون لم يعودوا.
هي رحلة الموت من أجل رؤية بيتهم، لإثبات ما تبقّى من ممتلكاتهم، فالوطن بات بيتاً صامداً أو مهدّماً.

هل هؤلاء هم شبّاننا؟ هل استسلموا لليأس والإحباط؟ هل تحوّلت الأحلام إلى كيس طحين، ثم إلى شاحنة مسروقات؟ من يقرع جدران الخزان؟ من يوقف هذا الانهيار؟ من يوقظ الروح الفلسطينية من سباتها؟ يكفي موتاً معنوياً. يكفي انتحاراً جماعياً بفقدان الأخلاق والحلم بالمستقبل.

الثمن باهظ: شهداء وجرحى بالمئات، أرواح ضاعت، وعائلات تفكّكت. المجتمع لا يحتاج إلى هدنة فقط، هو بحاجة إلى استعادة جذوره، وقيمه، وحمايته الذاتية، وإعادة بناء الثقة، بحاجة إلى سلطة حقيقية قادرة على وقف هذا الانهيار، وإلا، فإن المجاعة لن تكون آخر الفصول، بل بدايتها فقط.